في عام 2008، صرح عبد الرحمن العطية الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية آنذاك بأن المفاوضات الخليجية الأوروبية مهددة بالفشل إذا استمرت على المنوال نفسه، حينها كانت الدول الأوروبية تحاول طرح قضايا بعيدة عن اتفاقية التجارة الحرة التي تعمل الكتلتان الخليجية والأوروبية على الوصول إليها، وهذا الأسبوع وبعد 16 عاماً، انطلقت أعمال القمة الخليجية الأوروبية الأولى بحضور قادة الدول من مجلس التعاون الخليجي ودول الاتحاد الأوروبي، فما الذي تغير بعد 16 عاماً؟ ولماذا اتسمت العلاقة الخليجية الأوروبية بهذا التعقيد؟
كانت بداية العلاقة الرسمية بين الكتلتين عام 1988، أي قبل أكثر من 35 عاماً، حين وقعت الكتلتان إطار عمل لاتفاقية التجارة الحرة بينهما، ولم يتم تفعيل هذا الإطار حتى عام 2001، حين أعلنت دول الخليج عن تأسيس الاتحاد الجمركي، وطوال هذه الفترة انغمس الطرفان في مفاوضات طويلة، بلغتين مختلفتين البتة، فبينما ركزت دول الخليج على المصالح المتبادلة بين الكتلتين، كان تركيز الدول الأوروبية على قضايا الديمقراطية، ومنها حقوق الإنسان، التي يعد بعضها تدخلاً صريحاً في سيادة الدول، ويختلف عليها حتى الأوروبيون أنفسهم، وكان من الواضح أن دول الخليج تنظر لهذه العلاقة بدافع المصالح المتبادلة، بينما تنظر دول الاتحاد الأوروبي لها من منظور القُوى.
في ذلك الوقت - أي في عام 2008 - كان الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لدول الخليج، ولكن عدم استمرارية تطوّر العلاقة الاقتصادية بينهما جعل دول الخليج تلتفت إلى دول أخرى تمتلك منظور المصالح المتبادلة نفسه، ولعل الصين كانت إحدى أبرز هذه الدول، ومع ذلك لا يزال الاتحاد الأوروبي شريكاً مهماً لدول الخليج، حيث يعد الاتحاد الأوروبي ثاني شريك لواردات دول الخليج بأكثر من 16 في المائة عام 2023 بنحو 76 مليار يورو، ويمثل الاتحاد الأوروبي أكثر من 11 في المائة من إجمالي تجارة دول الخليج بقيمة زادت على 170 مليار يورو، في المقابل فإن الاتحاد الأوروبي هو رابع شريك تصدير لدول مجلس التعاون بنسبة 7.5 في المائة من إجمالي صادرات المجلس.
وكان يمكن لهذه العلاقة أن تكون اليوم أقوى بكثير مما هي عليه، ولكن الدول الأوروبية خلال العقدين الماضيين تأثرت بسيطرة بعض التيارات السياسية، التي فضّلت التوافق السياسي والاجتماعي على المصالح الاقتصادية، وفيما كان معظم الأوروبيين قبل عقدين يركزون على الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحول هذا التركيز ليصبح على قضايا التغير المناخي وضرورة الابتعاد عن النفط، وحينما سيطر تيار اليسار أضيف إلى ذلك قضايا «العدالة الاجتماعية» التي لا تتوافق مع توجهات العديد من الثقافات ومنها الإسلامية والعربية والخليجية، وكأن الأوروبيين دائماً يركزون دائماً على نقاط الاختلاف لا التوافق، وفي جميع هذه الاختلافات، كان الأوروبيون دائماً يرون أن منظورهم هو المنظور الصحيح وأن على بقية الدول أن تحذو حذوها في هذه التوجهات، والأكثر من ذلك أنها رهنت علاقتها الاقتصادية مع دول العالم بالتجاوب مع هذه التوجهات، وقد ظن الكثير من القادة الأوروبيين خلال هذه السنوات أن العديد من دول العالم ليس لديها خيار إلا أن تتعاون مع الاتحاد الأوروبي وتسلّم بقيَمه بغض النظر على الاختلافات فيها، ولكن ما حدث أن العديد من دول العالم تجاوزت الاتحاد الأوروبي، ومع صعود دول أخرى وتغير موازين القوى لدى العالم، أدركت الدول الأوروبية أن الزمن قد يتجاوزها إذا استمرت في النظر إلى العالم من برجها العاجي.
إن المصالح المشتركة بين الكتلتين لا يمكن إغفالها، فهي مصالح اقتصادية وسياسية واستراتيجية وأمنية، مدعّمة بالتقارب الجغرافي بين الكتلتين، والعديد من المشاريع المستقبلية المشتركة التي تربط الشرق بالغرب، والفشل في الوصول إلى اتفاقيات هو خسارة للطرفين، ولكن في الوقت نفسه استمرارية المفاوضات لفترة تزيد على 20 عاماً يعني أن القضايا المتعلقة هي قضايا معقدة ولا يمكن حلها إلا بحضور المستوى الأعلى من القيادات، وهنا جاءت القمة الخليجية الأوروبية لتسعى إلى فك عُقد المفاوضات، والوقوف على أرضية مشتركة بين هذه الدول، التي تدرك أن تعاونها فيه ازدهار للطرفين، والعودة في هذا الصدد إلى كلمة ولي العهد السعودي قبل عامين في قمة جدة للتنمية والأمن، التي أكد فيها على أهمية التركيز على المصالح المشتركة، مع التأكيد على احترام القيم بين الدول.