د. ياسر عبد العزيز
TT

وسائل إعلام «خائنة وعميلة»!

استمع إلى المقالة

قبل ثلاث سنوات، نقلت «فورين بوليسي» عن مؤسسة «جستيشيا» (Justitia) الدنماركية ما قالت إنها نتائج بحث عالمي أجرته على عينة ضمت 50 ألف شخص في 33 دولة، ولقد أظهرت نتائج هذا المسح تباينات واسعة بين الجمهور العالمي فيما يخص مفهوم حرية الكلام وحدوده.

وعلى سبيل المثال، فإن 91 في المائة من المستجوبين في الدنمارك والسويد أظهروا تسامحاً مع التصريحات الداعمة للعلاقات «المثلية»، بينما لم يؤيِّد حماية تلك التصريحات سوى 27 في المائة فقط من المستطلَعة آراؤهم في باكستان. وبينما أظهر 72 في المائة من الأميركيين قبولاً لتحمل إهانة علمهم الوطني، لم تزد تلك النسبة على 16 في المائة في تركيا و18 في المائة في كينيا.

وفي الوقت الذي يؤيد فيه 75 في المائة من المستطلعة آراؤهم في باكستان تقييد التصريحات التي تستهدف معتقدهم الديني، فإن هذه النسبة لا تزيد على 37 في المائة في بريطانيا وفرنسا.

تعطينا تلك النتائج تصوراً متكاملاً عن حالة مرتبكة ومتباينة فيما يخص تعريف حرية الكلام وتحديد نطاقها من جانب، وما يتصل بالموقف منها من جانب آخر، إلى حد أن «فورين بوليسي» لم تجد عنواناً للتعبير عن هذا التضارب، الذي أظهرته استجابات المستطلعة آراؤهم عبر الدول الـ33، أفضل من: «الناس يريدون حرية الكلام لأنفسهم»!

تنضم نتائج استطلاع «جستيشيا» إلى المئات من نتائج مسوح أخرى أظهرت هذه التباينات الحادة، خصوصاً فيما يتعلق بالمواقف من «المثلية»، و«استهداف المعتقد الديني»، و«الإساءة إلى العلم الوطني»، ويبدو أن الموقع الجغرافي وطبيعة النظم الحاكمة والهوية الثقافية للمجتمعات كانت عوامل حاكمة في تحديد نتائج الاستجابات في معظم الحالات إن لم يكن كلها.

صحيح أن حرية الرأي والتعبير مفهوم عالمي، لكنه يخضع للتفسير الوطني والإقليمي، والفردي أيضاً، حتى إنه في بعض الدول كان المبحوثون يعلنون أنهم «يريدون حرية أقل مما لديهم»، لأنهم يعتقدون أن ثمة ما يجب حجبه عن المجال العام في بعض الأحيان.

يشير ذلك إلى ما يمكن اعتباره حالة عالمية تنظر إلى حرية الرأي والتعبير من منظور خاص ودقيق يتعلق برؤى المتلقين ومواقفهم ومصالحهم، وليس ما يُعد قواعد مهنية مستقرة، ومعايير متسقة ومُتفَق عليها.

لقد ظهرت هذه الحالة في منطقتنا العربية بوضوح، بينما تدوّي المدافع، وتنطلق الصواريخ والمُسيرات، في الحرب الإقليمية المشتعلة راهناً، على أكثر من جبهة.

فبموازاة تلك الحرب الضارية، تنشب حرب أخرى موازية في وسائل الإعلام، سواء كانت «تقليدية» أو «جديدة»؛ وهي حرب لا تقل في سخونتها واحتدامها عن مثيلتها التي تجري بالدم والنار.

والشاهد أن الجمهور العربي يبدو منقسماً، أو متبايناً في أدنى الحدود، حيال ما يجري في الحرب الإقليمية الراهنة من جانب، كما أن الإعلام العربي بوسائله المتعددة، يبدو أيضاً منقسماً، أو متبايناً، في مواقفه حيال تلك التطورات المُلتهبة، من جانب آخر.

وعلى عكس ما جرى في المواجهات العسكرية العربية - الإسرائيلية منذ حرب عام 1948، يبدو أن الإعلام العربي فقد إجماعه التقليدي على اتخاذ خط تحريري واحد، ذي سمت دعائي في الأغلب، لمصلحة السردية العربية، وفي مواجهة السردية الإسرائيلية، وداعمها الغربي.

ولذلك التغير الفارق عديد الأسباب؛ بعضها يتصل بالاختلاف الموضوعي المفهوم حول «أسلوب المقاومة» الأمثل ضد العدوان والاحتلال الإسرائيليين، في ظل عدم التوازن الهائل بين الجانبين، وبعضها الآخر يتعلق بإدراك بعض المنظومات الإعلامية العربية، والقائمين عليها، دوافع معركة «طوفان الأقصى»، أو محركات «الدعم والإسناد القتالي» لها، بوصفها «حروباً بالوكالة، تجري لمصلحة طرف إقليمي مُعين، يُسخّر خلالها الدم والمقدرات العربية لتحقيق أهدافه في صراعه الخاص».

وقد أدى ذلك إلى معارك صغيرة متعددة على أكثر من جبهة؛ وهي معارك تمحورت حول الخط التحريري للوسائل الإعلامية «التقليدية» النافذة، أو مواقف المؤثرين والناشطين على مواقع «التواصل الاجتماعي».

وفي تلك المعركة انقسم الجمهور حول آليات التنميط، وانخرط في نزاعات حول استخدام كلمات «شهيد» و«مقاوم» و«إرهابي» و«احتلال» و«عدوان» و«مجزرة»، وغيرها، كما انقسم حول الخط التحريري لكل وسيلة، أو منظور التناول الذي تتبناه، وفي ذلك الانقسام لم تكن المعايير المهنية هي الأساس والمحك والحكم، ولكن ظهر بديلاً لها ما يتعلق بمفاهيم أكثر تقليدية وأقل قابلية للتعيين؛ مثل «الوطنية» و«العروبة» و«الإسلام» و«الرجولة» و«النخوة».

ولذلك، ذاعت الأنباء عن «شيطنة» وسائل إعلام بعينها، أو اتهام أخرى بـ«الخيانة والعمالة»، كما تحرك الجمهور في بعض الأحيان، ليُسكت أصواتاً لا ترضيه، ولا تستخدم المقاربة التي تناسبه، والألفاظ التي يحبها.

تقتضي الموضوعية أن نترك انحيازات وسائل الإعلام، وسياساتها التحريرية، لكي تُقوَّم بالتعدد الذي بات يميز فضاءنا الإعلامي، وإذا شطَّ بعضها أو تمادى في الانحياز، فإن الكلمات تُقوَّم بالكلمات، لكنَّ إجبار الجميع على الرؤية من زاوية واحدة، والتحدث بلغة واحدة، سيُحوِّل وسائل الإعلام إلى نسخ متكررة لسردية وحيدة، ولن يخدم الحقيقة، ولن يساعد الجمهور على فهم ما يجري من وقائع.