توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

المواطن «الممتاز» والمواطن «العادي»

استمع إلى المقالة

سألتني السيدة ميرة، وهي مثقفة من دولة الإمارات الشقيقة، عن علاقة المواطنين ببعضهم وعلاقتهم بوطنهم: هل نكتفي بمضمونها القانوني، أم نحتاج أيضاً إلى الرابطة الشعورية، أي الشعور بالتضامن والتكافل والانتماء الواحد؛ كي تكون مواطَنة صحية وبنَّاءة؟ لقد واجهت مثل هذا السؤال في واقع الحياة. كما سمعته موجهاً لأشخاص أعرفهم، من مواطنين يقولون: كيف تكون مواطناً مثلنا، وأنت تنكر كثيراً مما نؤمن به. وسمعت شخصاً كان مشهوراً في زمن سابق، يقول في حديث تلفزيوني: لو التقيت «فلاناً» لتفلت في وجهه. ثم شرح قائلاً: إننا لا ننتمي إلى ذات المكان والمرجع. وأعلم أن كثيرين قد شاهدوا تلك المقابلة التي أثارت جدلاً واسعاً في وقتها. والحمد لله أن تلك الصفحة قد طُويت، وارتاحت بلادنا من أثقالها.

يشير سؤال السيدة ميرة إلى رغبة في الارتقاء بمفهوم المواطنة إلى مستوى الهوية الكاملة، بمعنى تحقيق التماثل التام بين المواطنين، في القناعات السياسية والدينية والعاطفية والثقافية. ولا أظن أن هذا ممكن في الواقع. ولو قلنا إنه ممكن، فهو عسير المنال جداً. ولذا؛ لا أرى داعياً للسعي إليه أو المطالبة به؛ خشية تكليف الناس ما لا يطيقون.

على أنني سأطالع الموضوع من زاوية أخرى، تركز على معنى الهوية والمواطنة ومضمونها الثقافي. وسبب اهتمامي بهذه المسألة، هو ما أراه من خلط بين الهويات المختلفة، ولا سيما تحميلها على الهوية الوطنية وخلطها بالأعراف الدينية/المذهبية، من دون داعٍ.

في الوضع الطبيعي يحمل الإنسان هويات متعددة، بدءاً من انتمائه العرقي/القومي إلى العائلي والقبلي والإقليمي، وصولاً إلى هويته المهنية والطبقية وميوله السياسية، ودينه ومذهبه ولغته، والتاريخ الثقافي لبيئته الاجتماعية، إلى الوطن الذي يحمل جنسيته. كل من هذه الانتماءات الكثيرة يمثل خيطاً يشده إلى مكان ويؤثر في ثقافته وتصوره للعالم، أي في تشكيل ذهنيته. وبهذا المعنى، فإن هوية الإنسان توليف معقد ومتداخل من هويات متنوعة. وكلما تزايدت، كانت شخصية صاحبها أعمق تفكيراً وأوسع أفقاً.

أزعم أنه لا يوجد شخص واحد، أحادي الهوية، في العالم كله، بمعنى أن ذهنيته تشكلت في إطار هوية واحدة، أو انتماء واحد فقط. إن شخصاً كهذا ينبغي أن يكون منعزلاً عن العالم كله طوال حياته. وهذا – في ظني – مستحيل بحسب ما نعرف عن عالم اليوم.

حسناً. دعنا نتخيل صورة الهويات التي نحملها على شكل دوائر متداخلة. بعضها يقع في الوسط وبعضها في الأطراف، وبعضها فوق بعض، وهكذا. أفضل الحالات هي حالة التفاعل والتلاقي بين تلك الهويات، أي حين يكون الإنسان قادراً على التعبير عن نفسه وثقافته ودينه وانتمائه العائلي والقبلي والسياسي في إطار القانون الوطني. هنا يلتقي الجميع على أرض واحدة، وتمثل الهوية الوطنية دائرة واسعة جامعة، أو مظلة حامية للانتماءات والهويات الأخرى كافة.

في حالة كهذه لا يكون المجتمع الوطني حشداً هائلاً من الأفراد المستقلين، بل مئات من الدوائر التي لكل منها لون وعلامة، لكن جميعها يقع في داخل الدائرة الكبرى، أي الهوية الوطنية. هذا ما نسميه «التنوع في إطار الوحدة». وهو أرقى التعبيرات عن فكرة الوطن في هذا العصر.

ربما توجد حكومة فائقة القوة، تسعى لتذويب الهويات كافة، عدا واحدة. وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بالقوة الغاشمة. ونعرف من السجلات التاريخية أن بعض الطغاة قد فكر في هذا أو حاول فعله. ونعلم أن تلك المشروعات فشلت في أولى خطواتها؛ لأنها ضد المنطق وضد المسار الطبيعي للحياة. خلاصة القول، أن المواطنة الكاملة متحققة فعلاً لكل من يحمل جنسية البلد، مهما اختلف مع بقية المواطنين. هذا كافٍ تماماً. فإن حاولنا فيما يزيد على ذلك، فقد نتحول من بناء الوطن إلى هدمه. التنوع إثراء للوطن، والوطن لكل أهله، مهما اختلفت مصادرهم أو مشاربهم وغاياتهم.