بندر بن عبد الرحمن بن معمر
كاتب وباحث سعودي مهتم بالتاريخ، له مؤلفات مطبوعة ومقالات وبحوث منشورة. وهو أيضًا رجل أعمال وعضو مجلس إدارة عدد من الشركات، ومستشار لعدة جهات وهيئات.
TT

مائة عام إلا قليلاً... مع الحجيلان ومذكراته

استمع إلى المقالة

لسنوات ظللتُ - كغيري من المهتمين - أترقب صدور مذكرات الشيخ جميل الحجيلان، أحد أبرز وجوه الوزارة والدبلوماسية السعودية. أولى مطالعاتي لشيء من تلك المذكرات في ليلة شتوية (2017) بصحبة الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، وهو يراجع إحدى ملازم الكتاب، سبق وأن نشر الشبيلي مقالاً في هذه الجريدة (9 نوفمبر/تشرين الثاني 2013) ذكر فيه أن المذكرات قاربت 600 صفحة وعلى وشك الصدور! وقال: «عندما تستعيد الذاكرة اليوم ما تختزنه المراسلات بيننا على امتداد نصف قرن، فإنه كان الوالد والمساند، ولم يكرر عليّ أبو عماد قولاً عبر السنوات القليلة الفائتة، مثل التوصية على مخطوط ذكرياته الذي شارف على الانتهاء يستأمنني فيها على أعز ما يملك...».

ثم قرأت مقالاً للزميل الكاتب محمد السيف بعنوان «جميل الحجيلان... سيرة منتظرة»، وختم مقاله الذي نشره في «المجلة العربية» (16 أكتوبر/تشرين الأول 2019) واصفاً إياها: «أوفى وأشمل سيرة ذاتية قرأتها لمسؤول سعودي رفيع، وهي أرقى وأمتع سيرة ذاتية قرأتها لسياسي ورجل دولة عربي، من حيث لغتها العربية الباذخة التي اتسمت بدقة التصوير والوصف وبأسلوب أدبي جميل...» لم يبالغ السيف وهو «الخبير السِيَري»، في وصفه، ولعلَّ ما كتبه هو أول وأوفى ما كتب عنها توصيفاً وتلخيصاً. توالت بعد ذلك المقالات والكتابات عن السيرة المرتقبة بين مؤكد أنه اطلع عليها أو راجعها ومبشر بقرب صدورها أو مؤمل أن يقرأ فصولاً منها؛ إلا أن السنوات مرَّت دون أن تصدر رغم كل الآمال والبشائر!

في شهر أبريل (نيسان) (2022) زرت الشيخ جميل بمنزله في الحي الأرستقراطي من ضاحية الملز في الرياض المسمى «بيفرلي هيلز»، وكان السؤال عن المذكرات فقال: في طريقها إلى المطبعة، فرحت لذلك؛ لكنني بعد مدة تلقيت اتصالاً منه حول عدم قناعته بالبروفات التي قدمت له من عدة دور نشر. بعد اطلاعي على كامل محتواها تذكرت حديث الشبيلي ومقال السيف، الحقيقة أنها فاقت ما توقعت ككنز تاريخي ثمين.

بعد لقاءات مطولة ومناقشات مع أبي عماد، وهو القانوني الخبير والمفاوض الكبير، وبحث في التفاصيل التي يجيد الغوص في بحارها اللجية، وحرصه على أدق الأمور بدءاً من اختيار الخط والتصميم ونوع الورق ومقاس الصفحات وانتهاءً بعدد النسخ ومنافذ التوزيع، أوصيت بما رأيت أن هذه المذكرات تستحقها، فاقتنع أن يمنح حقوق نشر وتوزيع وطباعة وترجمة الكتاب لشركة «رف للنشر» (إحدى شركات المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام)، وأن تنشر «الشرق الأوسط» فصولاً ملخصة منها، وتم توقيع العقد في 21 نوفمبر 2022. منذ ذلك التاريخ شعرت بأنني مؤتمن على المذكرات، جاء حرصي تقديراً لمكانة أبي عماد في نفسي وعلاقته بكل من الجد عبد العزيز بن فهد بن معمر والعم عبد العزيز بن إبراهيم بن معمر، ثم أن هذه السيرة تمثل إضافة قيّمة للتاريخ السعودي الحديث.

الحجيلان الذي عمل في دهاليز السياسة وأروقة الدواوين، وخبر ممرات الدبلوماسية ومساراتها ومحطات الإعلام ووسائله؛ عاصر جميع ملوك المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز حتى اليوم، ترجم لهم وحمل رسائلهم وكلفوه بالمهمات، وحضر في معيتهم القمم والاجتماعات، فسمع ورأى وشهد وشاهد، ووثق في مذكراته - التي أعددت فصولاً ملخصة عنها ونُشرت في أربع حلقات على صفحات «الشرق الأوسط»، وتتوافر في جناح شركة «رف للنشر» بمعرض الرياض الدولي للكتاب - حوادث ومواقف وتفاصيل تنشر لأول مرة موثِقة مراحل من تاريخ المملكة العربية السعودية السياسي والإداري والاجتماعي، ورصد لتحولات مرت بها المنطقة ودولها خلال قرن من الزمان. تناولت السيرة ولادته في دير الزور (1927) لأسرة مغتربة (من عقيلات القصيم)، ونشأته القومية ومشاركته في الاحتجاجات ضد الاحتلال الفرنسي، ثم دراسته في مصر الملكية وتأثره بالتيارات السياسية، وحضوره خطاباً لحسن البنا بمقر جماعة «الإخوان المسلمين»، وتناوله الغداء مع أعضاء في «الحزب الشيوعي السوداني»، وحاول شرح أسباب تأثر كثير من المسؤولين السعوديين في تلك المرحلة بالأفكار القومية!

بعد حصوله على ليسانس الحقوق، وصل لوطنه أول مرة مطلع عام 1951 وعمل ملحقاً دبلوماسياً في وزارة الخارجية. بيد أن الموقف الأهم ترجمتُه بين الملك عبد العزيز ووزير خارجية إسبانيا (أبريل 1952). ثم انتقاله إلى السفارة السعودية بطهران (يونيو/حزيران 1953)، وقيامه بالترجمة بين الملك سعود والسفير السوفياتي أثناء الزيارة الملكية لإيران (يوليو/تموز 1955). ثم انتقل إلى السفارة السعودية بكراتشي (أغسطس/آب 1956)، ولا ينسى دور كل من الشيخ محمد الحمد الشبيلي والشیخ عبد العزيز بن إبراهيم بن معمر في ترشيحه مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر، وهي نقلة وظيفية لم يكن يتوقعها (ديسمبر/كانون الثاني 1960)، إلا أنه أُعفي بعد سبعة أشهر وعاد لوزارة الخارجية، وشارك في الوفد السعودي لقمة عدم الانحياز في بلغراد (سبتمبر/أيلول 1961) برئاسة وزير الخارجية الشيخ إبراهيم السويل الذي نقل رسالة من الملك سعود للزعيم اليوغسلافي تيتو وتولى الحجيلان الترجمة. ثم استدعي للطائف ليبُلغ بالأمر الملكي بتعيينه أول سفير سعودي في الكويت بعد استقلالها، وعايش الأزمة العراقية الكويتية، لكن التحدي الأكبر كان إيصال صوت الإعلام السعودي في ظل التحامل الإعلامي الناصري، الذي ازداد مع الانقلاب في اليمن (سبتمبر 1962). كان الحجيلان يرصد ردود الفعل ويرفع التقارير، فصدر الأمر الملكي بتعيينه وزيراً للإعلام (مارس/آذار 1963). تولى المنصب في ظروف داخلية وإقليمية بالغة التعقيد، ولعل الموقف الأكثر حرجاً حين طُلب منه إذاعة البيان المشترك لمجلسي الوزراء والشورى الذي نص على مبايعة ولي العهد فيصل ملكاً على البلاد (نوفمبر 1964). عُين بعد ذلك وزيراً للصحة (1970)، فسفيراً في ألمانيا (1974)، ثم سفيراً في فرنسا (1976)، فأميناً عاماً لمجلس التعاون الخليجي (1995) حتى تقاعده (2002).

في ثنايا السيرة تفاصيل عن حياته وأسرته والشخصيات التي كان على علاقة بها والمهمات التي كُلف بها والحوادث التي عايشها والمواقف التي مرت عليه والمعارك التي خاضها والدسائس التي تعرض لها، وقد يرى من يقرأها أنه توسع في بعض الجوانب وأسهب في السرد، لكنه يؤكد أن بعض التفاصيل تضيف الكثير لما يرويه، وهذا يدركه المشتغلون بالتاريخ. لن أسهب في وصف «المذكرات الحجيلانية» التي جاءت في 1500 صفحة، لأن تفاصيل قصتي معها تتطلب كتاباً مستقلاً، لكنني سأكتفي بالقول: إنها تجربة جيل وتاريخ أجيال فرّغ فيها الشيخ جميل ما اختزنته ذاكرته من ذكريات ومواقف وما حوته مكتبته من ملفات ومراسلات، وما ضمه أرشيفه الخاص من صور ووثائق وأوراق خاصة، لذا سيجد القارئ لهذه المذكرات: روايات وشهادات جميل الحجيلان عن مراحل وحوادث ومواقف وأشخاص، نقل فيها ما رآه ووصف ما واجهه ودون ما شهده، وهو في ذلك لا يتبنى بالضرورة موقفاً أو رأياً، لكنه يحاول أن يوثق شهادته، بأسلوب أدبي وبحِسٍّ تاريخي، وهاجس ما سيقوله التاريخ عن شهادته حاضر، كما أن ذهنية المسؤول أو «الرقيب» الإعلامي غير غائبة، لذا نجد أن أسلوب الكتابة يتماهى حسب القصة المروية، وهذا قد يفسر المدة التي استغرقتها كتابة هذه المذكرات، والتي وصلت إلى 20 عاماً، أضاف فيها وحذف ومحا وأثبت وزاد وخفف، بث فيها رؤاه وتحليلاته حول ما مرت به بلاده وما حولها من حوادث، وكتب مرافعته ومدافعاته عن مواقف وأشخاص ارتبط بهم أو تعامل معهم، وأظهر في كل ذلك مواهبه الكتابية ومهاراته التحليلية وقدراته القانونية وتفكيره السياسي، وهي أولاً وآخراً شهادته وروايته التي قد يختلف معه آخرون حولها؛ لذا من المهم أن تُقرأ في سياقها التاريخي ووفق ظروف أزمنتها، لكنها رغم كل ما سيقال عنها تظل سيرة رجل في تاريخ دولة.