قبيل اختتام أولمبياد باريس، وبالتحديد في 9 أغسطس (آب) الحالي، نشرت مجلة «المصلحة الوطنية» الأميركية مقالة بعنوان «الصين مقابل أميركا... الأولمبياد الجيوسياسية»، بقلم البروفسور غراهام أليسون، الكاتب السياسي المشهور صاحب نظرية «فخ ثوسيديديس». قال فيها، يوم أصبح رصيد الصين 32 ميدالية ذهبية، مقابل 30 ذهبية لأميركا: «إنَّ صعود الصين من العدم، لكي تصبح المنافس الرئيسي للولايات المتحدة في الألعاب الأولمبية، يعكس صعودها في كل المجالات الأخرى تقريباً لكي تصبح المنافس الجيوسياسي الحاسم في القرن الحادي والعشرين».
وذكر أيضاً أنَّه كان يترأس فريقاً من الخبراء من جامعة هارفارد، لإعداد تقرير حول الوضع الحقيقي للتنافس الأميركي الصيني قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020. وفي النهاية، خلص التقرير الذي تناول المنافسة بين الدولتين في 5 مجالات أساسية، هي الاقتصاد والتكنولوجيا والقوة العسكرية والدبلوماسية والآيديولوجيا، إلى أنَّ النتيجة في كل من المجالات الخمسة متطابقة، «فالصين التي لم يكن من الممكن رؤيتها في بداية القرن في مرآة الرؤية الخلفية، أصبحت الآن تسير إلى جانبنا، أو في بعض الحالات تتقدم علينا».
لم تُحدث هذه المقالة أصداء واسعة في الأوساط الثقافية الصينية، لأنَّها لم تأتِ بأشياء جديدة كثيرة، إنما جاءت لتأكيد حقيقة معروفة سابقاً لدى معظم المحللين داخل الصين وخارجها، وإن رأى البعض أنَّها مبالغة في تقدير القوة الصينية. وربما للسبب نفسه، لم يثر خبرُ تعادل الصين وأميركا في عدد الميداليات الذهبية كالنتيجة النهائية (40 ذهبية لكلتيهما)، ضجّةً إعلاميةً أو نشوة شعبية كبيرة في الصين، لأنَّ الهمّ الأساسي للمواطن العادي هنا هو المستوى المعيشي الذي ما زال متأثراً سلباً بتداعيات زمن ما بعد الوباء.
شخصياً، وبصفتي واحداً من عشاق الرياضة المخضرمين، وشاهداً لولادة معظم الميداليات الذهبية التي حصدتها الصين في «الأولمبياد» الصيفية، والتي بلغت 303 ميداليات ذهبية مع انتهاء الدورة الحالية، لم أعد أهتم كثيراً بعدد الميداليات أو لونها، بقدر اهتمامي بأشياءَ أخرى خارج مضمار السباق. وسأحاول تلخيصها بمشاهد تالية...
في المشهد الأول، خسرت الملاكمة الصينية يانغ ليو في المباراة النهائية مع اللاعبة الجزائرية إيمان خليف، ولكنَّها هنَّأت خصمَها مبتسمة فور انتهاءِ المباراة، وصرّحت أمام الصحافيين لاحقاً بأنَّ خليف التي كانت متفوقة في أدائها تستحقُّ هذا النصر، وأنَّ لديها بعض المهارات والقدرات الجيدة، والجديرة بالتعلم منها، دون أن تحاولَ تبرير خسارتها بالشكوك التي أثيرت حول الهوية الجنسية لخليف، الأمر الذي أكسبها إعجاباً ومحبة من قبل كثير من الجمهور، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي العربي، والجزائري بشكل أخصّ.
وفي المشهد الثاني، تُظهر لاعبة كرة الريش خه بينغ جياو شارةَ العَلم الإسباني، وهي تقف على منصة التتويج لتسلّم ميداليتها الفضية، تقديراً واحتراماً للاعبة الإسبانية كارولينا مارين، التي اضطرت إلى الانسحاب من مباراة نصف النهائي ضد خه، إثر إصابة خطيرة في الركبة أثناء المباراة، ما أدَّى إلى صعود خه تلقائياً إلى المباراة النهائية. ونالت هذه اللفتة الطيبة ثناء اللجنة الأولمبية الدولية واللجنة الأولمبية الإسبانية، بالإضافة إلى شكر اللاعبة كارولينا مارين نفسها.
وفي المشهد الثالث، اجتمع اللاعبون في منتخب رفع الأثقال الصيني، المتكون من 6 لاعبين ولاعبات، وعلَّقوا الميداليات الذهبية الخمس التي فازوا بها في باريس على عنق أخيهم الأكبر، الخاسر الوحيد في المنتخب الصيني، الذي لم يحصد ميدالية، للتعبير عن تشجيعهم له والتضامن معه.
وفي المشهد الرابع، كانت السبّاحة الصينية تشانغ يو في تردُّ على التساؤلات المتكررة من قبل بعض الصحافيين الغربيين حول مزاعم تعاطي المنشطات من قبل السباحين الصينيين، مستدلة بالأرقام والحقائق، مبديةً منطقاً سليماً وحججاً مقنعة، ومن دون تذلل أو تكبر. أقتبس مما قالته ما يلي: «نحن أبرياء في هذه القضية، وقد أثبت براءتَنَا الاتحادُ العالمي للسباحة والوكالةُ العالمية لمكافحة المنشطات (وادا)... كنَّا نتلقَّى فحوصات أكثرَ من اللاعبين في بلدانكم، أحياناً يكون الفحص في الساعة الخامسة فجراً، ولكنَّنا لم نتذمر كثيراً، لأن قبول هذه الفحوصات واجبُ كل لاعب... أظن أنَّ هذه المنظمات الدولية تلتزم العدالةَ، ولن تسمح لأي دولةٍ بأن تكونَ فوق النظام والقواعد، ولن تتستر على مخالفة أي لاعب. وإذا أصرّ بعضكم على عدم الثقة بها، فهذا شأنهم... لماذا ينبغي أن يتعرض السباحون الصينيون للشكوك عندما يسبحون بسرعة ويفوزون بالميداليات؟ ولماذا لا تجرؤون على إبداء الشكوك في مايكل فيلبس، السباح الأميركي الذي فاز بـ8 ميداليات ذهبية أولمبية؟». المشاهد الشبيهة بما ذُكر أعلاه كثيرة ولا تتَّسع لها مساحة هذه المقالة. أهتم بها لأنَّها تذكرني بدفء الرياضة وجمال الإنسانية، والقوة الأخلاقية والعقلية التي يتحلَّى بها اللاعبون أيضاً، بل أرى أن هذه المشاهد هي خير دليل على قوة الصين الناعمة.
وعند ذكر القوة الناعمة، يتبادر إلى ذهني مقطعٌ ممَّا كتبه المفكر اللبناني الشهير شكيب أرسلان تحت عنوان «مستقبل الصين»، نشر في مجلة «المقتطف» القاهرية عام 1900، في وقت كانت الصين فيه غارقةً في مستنقع التخلفِ والفقر والهوان:
«عُيّب الصينيون في ضعف نفوسهم وفقد الإقدام الشخصيّ من بينهم، ففاقَهم الأوروبيون في الجرأة والعزم، كما فاقوا الأوروبيين في الثبات والصبر، ولا ينكر أنَّهم من أهل الكدّ والسعي في كسب معاشهم، لكن اعتمادَهم في السعي على الثبات أكثر ممَّا هو على الإقدام. وتقلّ عند الصينيين المطامحُ السياسية، ويندر عندهم هذا الولوعُ بالرئاسة والتطاول إلى السيادة والغلب كما هو عند كثير من الأمم. وفي غرائزهم من حبّ السَّلام والركونِ إلى الدعة ما لا يوجد عند أمةٍ على وجه الأرض. ولا أظنُّ أنه توجد أمة تقلّ فيها أشعارُ الحماسة وأهازيجُ الفتوّة قلّتها عند الصينيين...».
وإن دلَّ هذا المقطع، وما وراءه من درس محزن على شيء، فإنما يدل على أنَّ القوةَ الناعمة وحدها لا تكفي، بل إن نعومة النفس لن تشكل مصدر قوة إن لم تكن مدعومة بالقوة الصلبة، وأن الاحترام ليس عطية بل اكتساب. والمشهد التالي في أولمبياد باريس كان بمثابة برهانٍ حي على هذه الحقيقة.
في مراسم توزيع الميداليات بعد فوز المنتخب الصيني في سباق سباحة التتابع 4×100 متر (متنوع - فئة الرجال)، متقدماً على المنتخب الأميركي الفائز بالفضية، والفرنسي الفائز بالبرونزية، وجد اللاعبون الفائزون، وإجمالي عددهم 12 لاعباً من 3 منتخبات، أن منصة التتويج أقصر من أن تتسع للوقوف جميعهم عليها. فبادر المنتخب الصيني، وبالتواضع الصيني المعهود، للجلوس على المنصة، لكن لاعباً من المنتخب الأميركي يصرّ على أن يقف المنتخب الصيني على المنصة، ليجلس تحتهم أصحاب الفضية والبرونزية. وكأنَّه يقول: هذا مكانكم، لأنَّكم أبطال اليوم. علماً بأنَّ بعض اللاعبين الأميركان كانوا يتجنَّبون مصافحة نظرائهم الصينيين، لا لشيء إلا للاستخفاف بهم. هكذا، وبالقوة، اكتسب لاعبو الصين احترام نظيرهم الأميركي!
قبل قرنين من الزمن، قال نابليون مقولته الشهيرة: «الصين أسدٌ نائم، فدعها تنم، لأنَّها إذا استيقظت فسوف تهزُّ أركانَ العالم».
لقد استيقظ ذلك «الأسد» الذي اسمه الصين، لكنه «أسد» ودود ومحبوب.