لا فرنسا، ولا أميركا، ولا الغرب بخير. وهو أمر مؤسف في عالم تهيمن عليه الديكتاتوريات، السافرة أو المقنّعة، الصينية والروسية والكورية الشمالية والإيرانية والتركية وسواها. علماً بأن الديمقراطية الغربية ليست هي النظام السياسي الأمثل، بل «النظام الأقل سوءاً»، على حد تعبير ريمون أرون.
ظواهر خلل كثيرة يمكن التوقف عندها في الواقع الغربي. لكننا سنختار إحداها: «كيف يمكن لشخص مثل جوردان بارديلا، الشاب ابن الـ28 عاماً، رئيس (التجمع الوطني) الفرنسي اليميني المتشدد، والذي لم يصل إلى الجامعة، أن يحوز هو وتجمّعه على 37 في المائة من أصوات الناخبين في بلد عريق التراث مثل فرنسا، بينما حلف الأحزاب الأربعة، الملتئمة حول إيمانويل ماكرون، الزاخرة قياداتها بخريجي (المعاهد الكبرى) الرفيعة الثقافة والتخصص العالي، لا تحصل مجتمعة على أكثر من 22 في المائة؟». وفي الجانب الآخر من الأطلسي، يلتف اليوم أكثر من نصف المجتمع الأميركي حول دونالد ترمب، الذي يجاهر بعدائه لـ«ثقافة النخب المهيمنة على وسائل الإعلام الكبرى»، ويكيل لها تهم «التضليل» والإسهام في «تخريب أميركا».
طرحت السؤال على الصديق الفرنسي، المفكّر والأديب، في رسالتي الأخيرة له، وقد أجابني أنه يستطيع إفادتي عن الوضع في فرنسا من خلال تجربته المعيوشة، فقال إن الانتخابات النيابية أظهرت على صعيد الجغرافيا السياسية الفرنسية ثلاث مناطق سوسيولوجية مختلفة: العاصمة باريس وضواحيها «الراقية»، حيث تهيمن «القوى الوسطية»، الماكرونية والاشتراكية والمحافظة المعتدلة، والداخل بمدنه الصغيرة وقراه وأريافه، حيث قوة وجود «التجمع الوطني» اليميني المتشدد، ومجموع الضواحي الفقيرة حول باريس وفي كل البلاد، حيث كثافة المهاجرين، بيسارها المتشدد وإسلاموييها ونزعة «الووكية» الرافضة لـ«حضارة الرجل الأبيض».
داخل هذه الجغرافيا الفرنسية، وعلى امتداد أوروبا وأميركا ومجمل الغرب، وفيما يتخطى الأحزاب والقوى السياسية الظاهرة، ثمة صراع عميق متفاقم أكثر فأكثر بين تيارين كبيرين: تيار تغلب عليه نزعة العولمة والأممية التي تتجاوز الأمكنة والحدود والسدود والقوميات وتقفز فوقها، وتيار متمسك بالهويات والثقافات القومية. والخطير أنه بين «تيار الأممية»، و«تيار الهوية»، تبدو الأمور ذاهبة، أكثر فأكثر، نحو الاصطدام الكبير.
أين موقع نخب الثقافة ونخب الإعلام، المتمركزة في باريس، من هذا الصراع التاريخي؟ تبدو «نزعة العولمة» هي الفاعلة ضمناً في وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى من قنوات تلفزيونية وصحف ومجلات وإذاعات، سواء المملوكة من الرأسمال الكبير أو من الدولة، مع استثناءات جد ضئيلة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجامعات، وللغالبية الواسعة من دور النشر. ويرى الصديق الفرنسي أن هذه الثقافة النخبوية التي تنشر ما يُعرَف بـ«الفكر السليم»، باتت أكثر فأكثر في حال قطيعة مع معظم شعب الداخل، الملتئمة من فئات واسعة منه حول «التجمع الوطني» اليميني المتمسك بـ«نزعة الهوية». بينما نجد تفاعلاً وتعاطفاً ضمنيين بين الثقافة النخبوية الباريسية والتيارات البارزة في مجتمعات المهاجرين والضواحي الفقيرة، التي يلائمها في صورة ما «تيار العولمة»، إذ يشجع على الهجرة ولا يرى فرقاً كبيراً بين المواطن الأصلي والمهاجر ضمن حركة الإنتاج والاستهلاك، ولا تعنيه مسألة الهوية.
هل هو الداخل الفرنسي في وجه باريس ومجتمعات المهاجرين؟ أجل، في صورة ما. كذلك هو الداخل الفرنسي، وسواه من دخائل أوروبا، المتمسكة بالهويات القومية، في وجه دوائر المجموعة الأوروبية في بروكسل، حيث روح العولمة برعاية أورسولا فون در لاين، وشارل ميشال، وجوزيب بوريل...
ويضيف الصديق الفرنسي أنه لا يمكن اليوم الخروج عن ثوابت «الفكر السليم» في فرنسا من دون التعرّض لعواقب، وأنه، بالنسبة إلى مواضيع كثيرة، كان يستطيع التعبير عن رأيه خلال إقامته في لبنان، أكثر من فرنسا. وهو يدرك أنه يمارس الرقابة الذاتية على نفسه في أمور كثيرة، فكرية وأدبية أيضاً، كي لا يعرّض سمعته وحياته المهنية للانهيار. ويضيف: «ليست هي حالي وحدي، بل حال كثير من المثقفين، الذين يراقبون بدقة كل كلمة تصدر عنهم في المواضيع الخلافية، خوفاً من سطوة (الفكر السليم)». ويضيف أيضاً: «يكفي أن تتحرك امرأة (ووكية) أو ميلونشونية واحدة لتجمع التواقيع ضدي، حتى أوصم بكل أشكال الـ(فوبيا) (الرهاب) السائدة، وأصبح على قارعة الطريق». ويرى الصديق الفرنسي أن «الفكر السليم» يطمح إلى ما يشبه الأحادية الفكرية في الديمقراطيات المتأزمة، ويسهم في صورة ما في تهميش الأدب الكبير لصالح «أدب القراء».