يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

«أبو داود»: «أبو إياد» وزوجته اللبنانية المزيفة «جولييت» أحضرا الأسلحة إلى ألمانيا

يوم هزت «أيلول الأسود» شباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ
0 seconds of 9 minutes, 3 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
09:03
09:03
 
TT
20

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية في 1972 شِباك دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وجابت صور جثث المهاجمين والرهائن العالم بأسره.

نحو مليار شخص تابعوا ما سميت «مجزرة ميونيخ» التي اختلط فيها الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني، وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي. وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحدث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه «طوفان» لكنه انطلق على الأرض الأوروبية.

رفضت حكومة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، الرضوخ لمطالب الخاطفين وبينها السماح لهم بالمغادرة إلى مصر مع رهائنهم. وخدعت الحكومة الألمانية الخاطفين واستهدفتهم نيران قواتها. تسبب الافتقار إلى الخبرة في مقتلة دُبّجت عنها كتب وأُنتجت أفلام وأُهرق حبر كثير. ترددت مائير في البداية، لكنها وافقت تحت ضغط عدد من وزرائها على عملية «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كل من له علاقة بهجوم ميونيخ في مطاردة عابرة للخرائط.

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

لا غرابة إذاً أن تؤرق استضافة الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية بلداً مثل فرنسا. فهذا الحدث العالمي قد يُغري المجموعات الإرهابية التي تبحث عن منبر استثنائي لتوجيه ضربة مدوية على الصعيد الدولي. يضاعف المخاوف أن العقود الماضية شهدت ولادة تنظيمات أدمت العالم، من قماشة «القاعدة» و«داعش» وغيرها.

يقع الصحافي في فخ المحطات المثيرة فيروح يسأل عنها كلما عثر على شريك فيها أو شاهد. وأنا كنت من هؤلاء ولا أزال. وشاءت المهنة أن ألتقى الرجلين اللذين صنعا موقعة ميونيخ تخطيطاً وتنفيذاً. اسم الأول صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، والرجل الثاني فيها بعد ياسر عرفات. واسم الثاني محمد داود عودة (أبو داود) عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح».

عرفات أبلغ وعباس صرف التكاليف

بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن، يمكن القول إن «الموساد» الإسرائيلي قتل كثيرين لكنه لم يقتل الثلاثة الذين وُلدت الفكرة على أيديهم وتحققت في صورة مأساة. والثلاثة هم: «أبو إياد»، ومساعده فخري العمري (أبو محمد)، و«أبو داود». اُغتيل «أبو إياد» والعمري لكن برصاص صبري البنا («أبو نضال» زعيم انشقاق «فتح - المجلس الثوري»، وأُصيب «أبو داود» برصاص «أبو نضال» أيضاً).

في تونس، قال لي «أبو داود» إن الفكرة «جاءت من العمري في لقاء ثلاثي. استوقفتْ الفكرة (أبو إياد) ثم أعجبته وأيّدتُها أنا». ويقول «أبو داود» إن عرفات «كان يعرف أن عمليةً لاحتجاز الرهائن ومبادلتهم بسجناء فلسطينيين في إسرائيل ستجري في ميونيخ، وتولى محمود عباس (أبو مازن) مسؤول المالية في (فتح) صرف المبلغ اللازم لتنفيذها».

وشدد «أبو إياد»، رداً على سؤال طرحتُه عليه، على أن العملية خرجت عن مسارها بسبب تشدد مائير ورعونة الحكومة الألمانية، وأن تعليمات مشدَّدة كانت قد أُعطيت للمنفذين بعدم قتل الرهائن أو إطلاق النار إلا في حالة الاضطرار القصوى للدفاع عن النفس. ويؤكد «أبو داود» أن التعليمات كانت صارمة بعدم القتل.

ملابس داخلية لتهريب السلاح

قصة مثيرة فعلاً. تولى «أبو إياد» شخصياً إحضار الأسلحة التي استخدمها المنفذون وكانت برفقته سيدة لبنانية سميت «جولييت» ساهم فتح حقيبتها المغطاة بملابس داخلية في إحراج رجل الجمارك الألماني، فمرَّر الحقائب الأخرى من دون تفتيش وهي كانت تحمل الرشاشات. وتولى «أبو داود» تخزين الحقائب في محطة القطار وتبديل أماكنها يومياً بانتظار موعد التنفيذ.

«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)
«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)

لم تراود الشكوك أجهزة الأمن الألمانية في ما يتعلق بزائر كان يتنقل بين فنادق ميونيخ بجواز سفر عراقي يحمل اسم سعد الدين ولي. كان الرجل المتنكر «أبو داود». وسيتولى استطلاع القرية الأولمبية أكثر من مرة.

وفي ليلة التنفيذ سيستخدم قامته الفارعة لمساعدة بعض المنفذين على تخطي السياج المحيط بالقرية الأولمبية. وتشاء الصدفة أن يتولى مساعدة منفذين آخرين رياضيون أميركيون عائدون من سهرة سمر من دون معرفة هوية رفاق «أبو داود» وأن حقائبهم ستختطف بعد قليل أنفاس الدورة الأولمبية والعالم.

قصة «أيلول الأسود»

لم تكن «أيلول الأسود» منظمة مستقلة. وُلدت على دويّ المعارك التي دارت بين الجيش الأردني والتنظيمات الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1970 واختتمت في العام التالي بعد معارك جرش وعجلون التي قُتل فيها القيادي الفتحاوي «أبو علي إياد».

وُلدت «أيلول الأسود» من رغبة في الثأر من النظام الأردني ومن المواجهة المفتوحة مع إسرائيل. كانت يافطة تستخدمها مجموعات في «فتح» لتنفيذ عمليات لا تريد تحمل مسؤولية مباشرة عنها، ونسبت إليها أحياناً عمليات لا علاقة لها بها. ويقول «أبو داود» إن علي حسن سلامة الذي اغتاله «الموساد» في بيروت لم تكن له علاقة على الإطلاق بعملية ميونيخ. ويضيف أن ما حصل في ميونيخ أثار حماسة الشعب الفلسطيني، ما دفع سلامة إلى الإيحاء بأنه شريك في العملية، خصوصاً أنه استخدم لافتة «أيلول الأسود» لتنفيذ بعض العمليات.

أثار الخروج القسري من الأردن حالة من الغضب في صفوف الفلسطينيين. وطُرحت أسئلة عن مسؤولية القيادات الفلسطينية في خسارة ما كان يعد الموقع الأفضل لمواجهة إسرائيل وإبقاء التواصل قائماً مع الأراضي المحتلة. ترك الخروج جرحاً في نفس «أبو إياد» لا سيما بعدما استمر اللغط حول ما قيل إنه اتفاق توصل إليه مع السلطات الأردنية إبان اعتقاله في أحداث 1970.

تحت لافتة «أيلول الأسود» ستتم عملية تصفية الحسابات. في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 سددت «أيلول الأسود» ضربة مؤلمة إلى الأردن. ففي ذلك اليوم اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، لدى دخوله فندق «شيراتون» في القاهرة. أربعة من أفراد المنظمة كانوا في انتظاره. وستطلق الحادثة جدلاً طويلاً لم يتوقف حتى اليوم وثمة من لا يزال يعتقد أن التل سقط برصاصة قناص كان يرابط على سطح بناية قريبة وليس برصاص فريق «أيلول الأسود».

إفراج السلطات المصرية عن المنفذين من دون محاكمتهم عزز شكوكاً أردنية بأن جهازاً مصرياً شارك أو تساهل. وكان نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية، قد نصح التل بعدم التوجه إلى القاهرة، لكنه رفض، وكان ما كان. تحدث «أبو إياد» في مواضيع كثيرة لكنه كان يرفض الخوض في حادثة اغتيال وصفي التل نظراً لحساسيتها، خصوصاً أن الأخير كان معروفاً بالنزاهة والشجاعة والدفاع عن فكرة الدولة والتنمية.

«أبو داود» أيضاً لم يرغب يوماً في الاسترسال في هذا الموضوع الذي تردد أنه كان ملفاً مقيماً لدى فخري العمري بعدما نال قرار اغتيال التل «موافقة مَن لا بد من موافقتهم».

بعد نحو أسبوعين من اغتيال التل، انهمر الرصاص على سيارة السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي، وأسعفه الحظ بالنجاة، واقتصرت الأضرار على إصابة في يده. حملت المحاولة توقيع «أيلول الأسود» أيضاً. وكانت هناك فصول أخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها.

إحباطات متراكمة

في 1972 بدا الجو الفلسطيني ملبداً. خيبة الخروج من الأردن وافتقار قوات الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان إلى ما يمكّنها من التصدي للغارات الإسرائيلية أو التوغلات. خاف قادة فلسطينيون من انهيار المعنويات أو شيوع اليأس.

بدأ التفكير في الربيع في حلقة ضيقة في ضرورة القيام بعمل مدوٍّ يثير الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني ويؤكد لسكان المخيمات أن المقاومة قادرة على إيذاء إسرائيل وإيلامها.

«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)
«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)

ازداد اهتمام «أبو إياد» مع مجيء الصيف بالقيام بعمل كبير وكان موعد الألعاب الأولمبية يقترب. طلب من «أبو داود» زيارة بلغاريا والحصول هناك على مسدسات مزوَّدة بكواتم صوت «لأننا سنحتاج إليها في أوروبا». وكان العمري يمتلك لائحة المواصفات المطلوبة. كان الغرض تسديد ضربات إلى عملاء «الموساد» في القارة الأوروبية.

كانت الجهات الفلسطينية قد وجّهت منذ بداية السنة رسالة إلى اللجنة الدولية الأولمبية طلبت فيها تمكين الفلسطينيين من المشاركة في دورة ميونيخ لكن اللجنة لم ترد. واجهت رسالة ثانية المصير نفسه.

في الثامن من يوليو (تموز)، كان «أبو داود» في مدينة دورتموند لشراء سيارة قد تحتاج المجموعة إليها في عملياتها الأوروبية. اتصل في ذلك النهار بـ«أبو إياد» الذي عاجله بخبر مؤلم. خبر اغتيال الروائي والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». قُتلت معه بانفجار سيارته ابنة شقيقته لميس الذي اصطحبها لتسجيلها في جامعة في بيروت.

بدا واضحاً أن كنفاني دخل دائرة الخطر مذ تولى إعلان مسؤولية الجبهة عن الهجوم على مطار اللد الذي نفَّذه ثلاثة من «الجيش الأحمر الياباني» يعملون تحت عباءة الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في الجبهة والذي هز العالم بعمليات خطف الطائرات.

على مقهى في روما وُلدت الفكرة

في أول لقاء مع «أبو إياد» بعد الحادثة طرح السؤال عن رد قوي على الاعتداءات الإسرائيلية التي تخطت كل حدود. اقترح العمري مهاجمة سفارات وقنصليات إسرائيلية لكن «أبو إياد» رأى أن ذلك سيضع المقاومة في مواجهة مع الدول التي تستضيف هذه السفارات. سأل «أبو إياد» «أبو داود» رأيه فأجابه أنه لم يبلور لديه اقتراح لكن البقاء في الوضع الراهن غير ممكن.

سيكون الموعد الثلاثي المقبل في مقهى في روما. أبلغ «أبو إياد» باستمرار اللجنة الدولية الأولمبية في تجاهل وجود الفلسطينيين فانتابه الغضب. قال العمري: «ما داموا يصرون على تجاهلنا لماذا لا نحاول التسلل إلى المدينة الأولمبية؟». سأله «أبو إياد» عن الغرض فأجاب: «لنحتجز رياضيين إسرائيليين». سأله «أبو إياد» إن كان مجنوناً؟ تدخل «أبو داود» ملمحاً إلى أن معظم الإسرائيليين لهم علاقة ما بالمؤسسة الأمنية أو تابعوا تدريبات عسكرية.

صمت «أبو إياد» وبدا كمن يمحص الفكرة. قطع فجأة صمته وقال: «في مقابل من نحتجزهم من رياضيين وإداريين إسرائيليين نطالب بإطلاق عدد وازن من سجنائنا في إسرائيل. الفكرة ليست سيئة». وبعد لحظات خاطب «أبو داود» قائلاً: «ميونيخ في طريقك إلى بلغاريا».

انطلقت التحضيرات لعملية ميونيخ. وقبل المغادرة طلب «أبو داود» من «أبو إياد» التحدث إلى «أبو مازن» للحصول على تمويل للعملية، فردّ: «لا تقلق سأتحدث إليه في الوقت المناسب. أنا متأكد من موافقته وسنحصل على المبلغ اللازم».

لم ينجح «أبو داود» في إقناع البلغار بتسليمه الأسلحة. اشترطوا اتصالاً من جهة رسمية وكانوا يقصدون منظمة التحرير أو قيادة «فتح». تدخل «أبو إياد» لكنهم وضعوا شرطاً جديداً وهو أن تتجه الأسلحة إلى الشرق الأوسط لا إلى أوروبا نظراً لخطورة انكشافها هناك.

«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)
«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)

كان «أبو داود» يتحدث في ليل العاصمة التونسية كمن يسترجع شبابه أو لحظة عرسه. لم يستثمر دوره في ميونيخ كما فعل «كارلوس» الفنزويلي بعد عملية احتجاز وزراء «أوبك» في فيينا. أخفيت ذهولي كي لا يشعر أنه ذهب بعيداً. لا شيء يشبع شراهة الصحافي كهذه القصة المثيرة عن رجال يتحركون بجوازات سفر مزورة وتأشيرات تم التلاعب بها وتبديل فنادق وعناوين وتضليل حراس.

زيارتان استطلاعيتان

كرر «أبو داود» محاولاته لاستكشاف القرية الأولمبية. استعان ذات يوم بسيدة فلسطينية تتقن شيئاً من الألمانية. تظاهر بأنه رجل برازيلي ويريد الدخول لمصافحة أصدقاء له. رق قلب الحارس الألماني وسمح لهما. سيعود لاحقاً برفقة الشابين اللذين سيتوليان قيادة الفريق المنفذ وهما يوسف نزال ومحمد مصالحة.

اقترب من مقر البعثة الإسرائيلية ورأى امرأة تحمل أوراقاً. سألها بالإنجليزية عن مقر البعثة الإسرائيلية فاستفسرت عن سبب السؤال. رد بأنه برازيلي ويحلم كرفيقيه بزيارة إسرائيل والحصول على معلومات عن هذا البلد وكذلك على أعلام له لنقلها إلى أولادهم. تبين أن السيدة إسرائيلية ووقعت في الفخ، فما إنْ توجهت إلى المقر القريب حتى دخل الثلاثة برفقتها للتعرف على جغرافيا المكان الذي سيشهد الهجوم. استطلع «البرازيليون» قدر الإمكان المداخل والممرات والأجنحة الملحقة.

استلزمت الأسابيع الأخيرة من الإعداد لقاءات ورحلات في اتجاه جملة مدن بينها أثينا ومدريد وصوفيا وجنيف، فضلاً عن بيروت وطرابلس الليبية. كان لـ«أيلول الأسود» مركز تدريب في نقطة قريبة من صيدا في جنوب لبنان. لكن الضرورة اقتضت إرسال مجموعة من المقاتلين لمتابعة دورة سريعة ومكثفة في طرابلس.

طُرحت في أحد الاجتماعات المسألة الأهم، وهي كيف يمكن إيصال الأسلحة في ظل إجراءات استثنائية لا بد من أن تواكب حدثاً يشارك فيه رياضيون من 120 دولة. فوجئ «أبو داود» والعمري بـ«أبو إياد» يقول بلهجة حاسمة: «أنا سأوصلها». استبعد «أبو داود» أن يضطلع «أبو إياد»، وهو رجل ذائع الصورة والصيت مباشرةً، بمهمة محفوفة بالأخطار، ورجح أن يستعين بمنظمة أو مجموعة.

زوجة لبنانية مزيفة... وقنابل في حقيبة يد

أرسل «أبو إياد» إلى «أبو داود» أن ينتظره في مطار فرانكفورت في 24 أغسطس (آب) 1972. ذهب «أبو داود» إلى الموعد وراقب من وراء الزجاج. انتظر إطلالة «أبو إياد» بفارغ الصبر وعلى قدر من القلق. فجأة أطل «أبو إياد» في صحبة سيدة لبنانية تظاهر بأنها زوجته وسُميت جولييت، فضلاً عن تاجر صديق له واسمه علي أبو لبن.

كان «أبو إياد» ثابت الأعصاب على خلاف أبو لبن الذي وصل به الأمر حد تناول المهدئات. أشار رجل الجمارك إلى «أبو إياد» أن يفتح الحقائب فخاف «أبو داود» أن تنهار العملية برمتها. وفجأة بدأ «أبو إياد» في إخراج الملابس الداخلية لـ«زوجته» مبدياً شيئاً من التذمر من هذا النوع من المعاملة. أُصيب موظف الجمارك بالإحراج وأشار بمرور الحقائب كمن يعتذر. وهكذا وصلت الأسلحة المخبأة في الحقائب الأخرى.

لم يقترب «أبو داود» من «أبو إياد» الذي صعد مع رفيقيه إلى سيارة تاكسي. تبعه «أبو داود» في السيارة الموالية وطلب من السائق السير وراء سيارة صديقه. ضحك سائق السيارة الثانية من إصرار «أبو داود» على متابعة صديقه ودفَعَه الخبث إلى التفكير أن عين الرجل هي على السيدة الموجودة في التاكسي الآخر ولم يخطر بباله أن رجال السيارتين سيشعلون حريقاً كبيراً سيلازم اسم ميونيخ والألعاب الأولمبية.

هكذا عرف «أبو داود» الفندق الذي ينزل فيه «أبو إياد». ترجل من السيارة ومشى قليلاً في اتجاه آخر للتضليل ثم دخل الفندق وصعد إلى غرفة أبو لبن. وجد «أبو إياد» مسترخياً هناك وكانت «جولييت» في غرفة أخرى.

اكتشف «أبو داود» أن عدد الرشاشات ثمانية وطلب منه «أبو إياد» التصرف على أساس أن الفريق المهاجم سيكون من ثمانية لا عشرة. لاحظ «أبو داود» غياب القنابل فاتفق أن يعود أبو لبن سريعاً إلى بيروت لإحضارها في حقيبة يد تفادياً لإثارة الشبهة. وهذا ما حصل. نقل «أبو داود» الأسلحة إلى خزائن الأمانات في محطة القطار في ميونيخ، وأضاف إليها لاحقاً القنابل وكان يغيّر مكانها يومياً ومن دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن.

اللمسات الأخيرة

وصل أعضاء الفريق المشارك من طرابلس وتولى مصالحة ونزال توزيعهم في ثلاثة فنادق مختلفة بمعدل اثنين في كل فندق ومن دون ذكر اسم «أبو داود». وكان على «أبو داود» أن يشتري لهم ثياباً رياضية وحقائب وبعض الضمادات والبسكويت في حال طال احتجاز الرهائن.

عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)
عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)

افتُتحت الألعاب الأولمبية في 26 أغسطس. اختار المخططون الانتظار كي يسود الانطباع أن الألعاب تجري طبيعية وتتراخى التدابير الأمنية.

كنت أشعر أنني أنتظر قصة جديدة كلما أشعل «أبو داود» سيجارة إضافية.

قال «أبو داود» إن اجتماعاً عُقد سابقاً في بيروت وشمل أيضاً «أبو إياد» و«أبو مازن» خلص إلى التشديد بصورة قاطعة على عدم اعتبار العملية فرصة للثأر والتنكيل وأن «العملية سياسية قبل أن تكون عسكرية والمصلحة تقضي بعدم إراقة الدماء إلا في حال الخطر وفي سياق الدفاع عن النفس». وأضاف أنه أبلغ الفريق المنفذ بذلك في اجتماع عقده معه «بوصفي برازيلياً مؤيداً للثورة الفلسطينية وكنت أتحدث خلال الاجتماع بالإنجليزية ويتولى أحدهم الترجمة».

كانت الاستعدادات قد اكتملت: سيدخل المنفذون من أقرب نقطة في السياج الأولمبي إلى المبنى 31 الذي تقيم فيه البعثة الإسرائيلية. سيحاول احتجاز أكبر عدد ممكن من الرهائن. سيتولى مصالحة عملية التفاوض. سيسلم الوسطاء لائحة تطالب بإطلاق أكثر من مائتي سجين فلسطيني في إسرائيل وهي تتضمن أيضاً اسم كوزو أوكاموتو الياباني الذي شارك في هجوم اللد، إضافة إلى الإفراج عن أولريكه ماينهوف وأندرياس بادر من جماعة «بادر ماينهوف» الألمانية الراديكالية.

كانت هناك تعليمات بخفض المطالب إذا تعقدت المفاوضات، «وكانت الخطة تقضي بطلب طائرة لاصطحاب الرهائن إلى دولة شرق أوسطية ويفضل أن تكون مصر التي ستطالب بالتأكيد بعملية تبادل لإطلاق الإسرائيليين المحتجزين»، كما روى «أبو داود».

ليلة التنفيذ

في الرابع من سبتمبر شعر «أبو داود» باكتمال التحضيرات فأعطى إشارة التنفيذ. بعد منتصف الليل سيكون إلى جانب السياج مع المنفذين بثيابهم الرياضية والرشاشات المخبأة في حقائبهم. يقول «أبو داود» إن «الشباب كانوا يستعدون لتسلق السياج حين سمعنا ضجيجاً وسرعان ما تبين أنهم لاعبون أميركيون سهروا وأسرفوا في الشراب وقرروا تسلق السياج للعودة. المضحك أنهم عرضوا على شبابنا المساعدة وقدموها وشملت رمي الحقائب التي تحوي السلاح إلى الجهة المقابلة. واستخدمت أنا طولي لمساعدة من وجد صعوبة. وكانت المفاجأة أن الرجل الذي ساعدته قال لي: شكراً أبو داود، وأنا كنت أتوهم أنني نجحت في إخفاء هويتي عن المنفذين باستثناء نزال ومصالحة».

ترك «أبو داود» المكان وعاد إلى فندق سجل نفسه فيه باسم مستعار آخر. شرارة البدء في الرابعة والنصف صباحاً. مرت ساعات ولم تبث الإذاعات شيئاً. وكان «أبو داود» قد اتفق مع مصالحة ونزال على أن يلتحق به أعضاء الفريق في محطة القطار إذا فشلت المحاولة لأن جوازاتهم كانت في حوزته. في الثامنة بثت وسائل الإعلام نبأ اقتحام القرية الأولمبية. وهكذا صارت القصة ملك العالم بأسره.

مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)
مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)

رفضت حكومة غولدا مائير شروط الخاطفين. ويعتقد أنها مارست ضغوطاً على حكومة ألمانيا الغربية بذريعة أن التجاوب يشجع الإرهاب. خدعت الحكومة الألمانية الخاطفين. وافقت على انتقالهم إلى مطار عسكري حيث ستنتظرهم طائرة «لوفتهانزا» لنقلهم إلى مصر. هبطت طائرتا الهليكوبتر في المطار وتوجه نزال ومصالحة لتفقد طائرة الركاب، ولدى خروجهما اندلع الرصاص واختلط. حاولت الأجهزة الألمانية قتل الخاطفين وكانت النتيجة مقتل خمسة منهم، إضافة إلى رهائنهم التسع وشرطي ألماني. ويُذكَر أن رياضيين إسرائيليين قُتلا خلال عملية الاقتحام وتجميع الرهائن.

«غضب الرب»

بعد ميونيخ وافقت حكومة مائير على عملية «غضب الرب» التي أدت إلى اغتيال عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الفلسطينيين ولم تكن لمعظمهم علاقة من قريب أو بعيد بعملية ميونيخ. نجحت إسرائيل في اغتيال كثيرين إلا الحلقة الأساسية. فقد اغتيل «أبو إياد» وفخري العمري في تونس في 14 يناير (كانون الثاني) ومعهما المسؤول الأمني هايل عبد الحميد (أبو الهول) على يد شاب اسمه حمزة أبو زيد اندسّ في جهاز حماية عبد الحميد بناءً على طلب «أبو نضال».

كان «أبو إياد» متحفظاً في الكلام عن المحطات التي لعب دوراً فيها. لم يرد ترك بصماته مباشرةً في أي مكان. كان ينسب ما تحقق إلى «الشباب» ولهذا لمست قدراً من العتب عليه من جانب «أبو داود» الذي لعب دوراً حاسماً في عملية ميونيخ وغيرها.


مقالات ذات صلة

الصحة الفلسطينية: الجيش الإسرائيلي يقتل شابّاً بالضفة الغربية

المشرق العربي جنود إسرائيليون يقتحمون مخيماً للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة نابلس بالضفة الغربية (د.ب.أ)

الصحة الفلسطينية: الجيش الإسرائيلي يقتل شابّاً بالضفة الغربية

قالت وزارة الصحة الفلسطينية، يوم الخميس، إن فلسطينيّاً قُتل برصاص الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (رام الله)
شمال افريقيا سيارات إسعاف مصرية أمام معبر رفح لنقل الجرحى والمرضى الفلسطينيين (الشرق الأوسط)

سيارات إسعاف مصرية تصطف أمام معبر رفح بانتظار «هدنة غزة»

أكدت مصر أن سيارات الإسعاف والطواقم الطبية في وضع استعداد دائم أمام معبر رفح بانتظار استقبال المصابين الفلسطينيين ومرافقيهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
تحليل إخباري جانب من حريقٍ اندلع في منطقة اللطرون بوسط إسرائيل بين القدس وتل أبيب في 1 مايو 2025 (إ.ب.أ)

تحليل إخباري هل أصبحت الحرائق سلاحاً في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني؟

في الوقت الذي كانت فيه قوات الجيش الإسرائيلي تحرق الأراضي الزراعية في شمال قطاع غزة، اشتعلت حرائق مهولة بمنطقة القدس في إسرائيل.

نظير مجلي (تل أبيب)
خاص فلسطيني يلوح بعلم بلاده أمام آليات عسكرية إسرائيلية في طولكرم أغسطس الماضي (رويترز) play-circle

خاص «حل الدولتين»... حلم فلسطيني لا يُرى ولا يزول

في اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الأسبوع الماضي، في رام الله، خرج الرئيس محمود عباس أبو مازن عن النص المكتوب، بكلمات لم تحظ بتعليق واسع؛ قال…

كفاح زبون (رام الله)
المشرق العربي فلسطينيون يتلقون تبرعات غذائية بمركز توزيع في خان يونس بقطاع غزة (أ.ب)

غزة: «وورلد سنترال كيتشن» تحذر من تفاقم أزمة الغذاء  

حذَّر مؤسِّس منظمة «وورلد سنترال كيتشن» الإغاثية خوسيه أندريس، اليوم (الخميس)، من تفاقم أزمة الغذاء في قطاع غزة، داعياً إسرائيل إلى فتح ممرات إنسانية على الفور.

«الشرق الأوسط» (غزة)

إيران خارج مطبخ الانتخابات العراقية... «لكنها في المنزل»

رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)
رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)
TT
20

إيران خارج مطبخ الانتخابات العراقية... «لكنها في المنزل»

رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)
رئيس الحكومة محمد شياع السوداني (إكس)

تسمح إيران بحلبة مفتوحة لنزالات القوى الشيعية قبل أشهر من الانتخابات العراقية، وفي حين لا تتدخل كثيراً في التفاصيل بسبب انكفاء محورها، فإنها تتأهب بـ«الخطة ب» عن بُعد، لمنع اقتتال بين جماعاتها وتحسباً لعودة التيار الصدري، إذ تحاول قدر الإمكان عدم الظهور بوضوح أمام أعين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في دوائر بغداد.

ومنذ إعلان تحالف «الإطار التنسيقي» قراره بالتفرق إلى قوائم في الانتخابات المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، بدا أن قطبين رئيسيين يتنافسان على أصوات الجمهور الشيعي، وهما رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني والأسبق نوري المالكي، في معركة تقليدية «قد تخرج عن السيطرة»، كما يقول قيادي بارز في «حزب الدعوة الإسلامية».

ويقول أشخاص يعملون في «مطابخ انتخابية» لقوى كبيرة في التحالف الشيعي، إنهم يلمسون تراجع إيران في مكاتبهم، إذ لا يشعرون «للمرة الأولى» بضغطها في رسم التحالفات، لكنهم موجودون فعلاً لحماية الحلبة من الاقتلاع «لو هبّت رياح عاتية».

الحال أنها المرة الأولى في كل شيء؛ إذ يتسرّب إلى بغداد أن إيران قد تقدم المزيد من الأضاحي لحماية النظام، وقد تكون فصائل عراقية من بينها بعد تداعي «الحوثيين» في اليمن، بينما يصل إلى طهران عن الجماعات الموالية أنها تريد حماية مصالحها بالانخراط أكثر داخل المؤسسات الحكومية «حتى لو تطلّب ذلك التخلي عن السلاح مؤقتاً».

وثمة اشتباك عراقي - إيراني «بارد» حول الانتخابات ربطاً بمصير مفاوضات البرنامج النووي الإيراني، لكن الطرفين متفقان على أن «كل ما يجري وسيجري أمر مؤقت للضرورة».

في 25 أبريل (نيسان) 2025، وصف المرشد الإيراني علي خامنئي المحادثات بين بلاده والولايات المتحدة بـ«الوضع المؤقت». وقال، خلال مجلس عزاء في طهران، إن «هذا التسلّط للنفاق ليس قدراً دائماً، بل هو مؤقت ضمن تقدير إلهي».

قبل ذلك، كانت مصادر عراقية أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن فصائل عراقية حصلت على «فتوى»، من المرشد الإيراني علي خامنئي، تُجيز مناورة ضغوط يفرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.

وأظهرت مقابلات حديثة أجرتها «الشرق الأوسط» مع سياسيين عراقيين أن «حرية الحركة» تسمح الآن بوضع يشبه «المصارعة الحرة»، وقد يتفاقم إلى سيناريو يشبه اشتباكات المنطقة الخضراء في سبتمبر (أيلول) 2022، حين اقتحم أنصار مقتدى الصدر المنطقة المحصّنة، احتجاجاً على منعهم من تشكيل حكومة أغلبية بعيداً عن «الإطار التنسيقي». وأفادت تلك المقابلات بأن «إيران خرجت من مطبخ الانتخابات مؤقتاً لكنها موجودة في المنزل».

أنصار الصدر داخل البرلمان العراقي في يوليو 2022 (رويترز)
أنصار الصدر داخل البرلمان العراقي في يوليو 2022 (رويترز)

خريطة «سيّالة»

في 10 أبريل (نيسان) 2025، كشفت «الشرق الأوسط» أن قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري»، الجنرال إسماعيل قاآني، ترك في العاصمة بغداد فريقاً مصغّراً لإدارة ملفات سياسية، من بينها الإشراف على تحضيرات القوى الشيعية للانتخابات البرلمانية.

بعد أسبوعين، قرر «الإطار التنسيقي» خوض الانتخابات متفرقاً إلى قوائم، وهذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها التحالف الحاكم إلى هذا التكتيك، محكوماً بقانون انتخابي يقسم البلاد إلى دوائر، فضلاً عن تضارب مصالح بين القوى المتنافسة.

بحسب سياسيين كلفتهم أحزابهم وضع خطط أولية للانتخابات، فإن الفريق الإيراني لم يظهر كثيراً في مطابخ «الإطار التنسيقي». يقول القيادي في حزب الدعوة إن «طهران التي تمرّ بلحظة حساسة، تنشغل بحماية نظامها وتاريخها السياسي»، لهذا «تكاد تختفي من المشهد في بغداد».

ساعد هذا «الاختفاء»، كما يزعم القيادي الشيعي، قوى «الإطار التنسيقي» على التصرف بحرية أكبر في صياغة التحالفات، رغم إقراره بأن «العمل في غياب المشرف له مخاطره».

يتحرك «الإطار التنسيقي» في خريطة سيّالة. في الأسبوعين الماضيين، عقد ممثلو أحزاب شيعية اجتماعات لرسم التحالفات، فشل كثير منها في تشكيل قوائم تجمع حزبين أو أكثر بعد مدٍّ وجزر.

اقترب محسن المندلاوي، النائب الأول لرئيس البرلمان، من نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون»، ثم ابتعد. كذلك، وجد هادي العامري، وهو رئيس منظمة «بدر»، نفسه قريباً من رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، قبل أن يتصادما ويتفقا على الافتراق، وقد يعودان.

بهذه الطريقة، تسيل القوائم دون إقفال حاسم حتى الآن. يقول هشام داود، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، إن «المجتمع السياسي الشيعي في العراق عرف أول انقسام كبير له عام 2009. حينما عبّر المالكي عن رغبته في خوض الانتخابات بمفرده لفرض قيادته على الحلفاء، ثم عاد التحالف الشيعي تحت ضغوط إيرانية وتزايد الخطر الذي مثله وقتها تحالف «العراقية» بقيادة إياد علاوي.

من الطبيعي أن يتعرض «الإطار التنسيقي»، اليوم، إلى عملية تفكك أخرى، يراها هشام داود متزامنة مع ضغوط إقليمية ودولية، وتغييرات أكثر عمقاً في المنطقة، منها حرب غزة، وتلقي «حزب الله»، في لبنان، ضربة موجعة، والانهيار المدوي لنظام الأسد في سوريا، وتعرض الحوثيين للمزيد من الهجمات في اليمن.

ويتساءل الباحث العراقي عما يعنيه ذلك إيرانياً من إعادة طرح العديد من الأسئلة ذات الطبيعة الاستراتيجية: كيف يمكن الاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية في العراق؟

«ربما لا تريد هذه المرة»، يقول القيادي في «الدعوة» المقرب من المالكي، إن «إيران تحاول إيصال رسائل بأنها لا تتدخل في الشأن العراقي، وأنها منهمكة في حماية النظام، وفي إدارة تحوّل جديد بالسياسة الخارجية». ويقول قيادي شيعي آخر: «إيران تترك حلفاءها يتنازعون قبل الانتخابات، لأنها متأكدة من عودتهم إليها؛ إذ إنها الوحيدة القادرة على (مسك النهايات)».

رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)

العراق بوصفه من «أضاحي إيران»

يعتقد القيادي في «الدعوة» أن إيران «في سبيل منع إسقاط نظامها السياسي مستعدة لتقديم الأضاحي بعد سوريا ولبنان واليمن، حتى لو كانت الأضحية الجديدة في العراق، وذلك لدفع ضرر كبير»، لكنه يشدد على أن «الإيرانيين لا يتغيرون، ولن يقتنعوا يوماً بالانكفاء عن المنطقة، وسيعودون يوماً».

يشكك كثيرون بهذا الغياب. ثمة مصالح في العراق يجب أن يبقى أحد «من إيران» لرعايتها. يقول أشخاص من «الإطار التنسيقي» تحدثت معهم «الشرق الأوسط»، بشرط عدم الكشف عن أسمائهم، إن لإيران دوائر مختلفة تتعاطى مع الملف العراقي: «هناك (قوة القدس)، و(الحرس الثوري)، وجهاز (الاستخبارات)، إلى جانب مكتب المرشد علي خامنئي، وحتى شخصيات في عائلته، كلها دوائر معنية بالانتخابات العراقية»، وكل «طرف لديه تفضيلات ومصالح».

يقول الباحث هشام داود إن «العراق بالنسبة لإيران ليس سوريا ولا حتى لبنان؛ هو السوق التجارية الأوسع لإيران، والممر الجغرافي نحو البحر المتوسط».

بالفعل، ثمة لقاءات عقدها أعضاء في فريق قاآني مع سياسيين شيعة للتأكد من أن «كل شيء تحت السيطرة». يقول مفاوضون عن أحزاب شيعية تعمل على تشكيل التحالفات إن «الإيرانيين مَوجودون بالفعل، لكنهم يراقبون الانتخابات عن بُعد، ولديهم تفضيلات تتعلق بأمرين: تقليل عدد القوائم لتجنب التشظي، وإدراج الفصائل المسلحة الأساسية في التحالفات الكبيرة».

سألت «الشرق الأوسط» ممثلي فصائل ما إذا كانوا يشاركون في الانتخابات، كانت الإجابة أنهم لم يقرروا بعد، أو أنهم غير معنيين بها. يقول كاظم الفرطوسي، القيادي في «كتائب سيد الشهداء»، إنهم «لا يسلمون بالاشتراك في الانتخابات رغم قناعتهم بأنها أساس النظام السياسي في البلاد».

استعراض لعناصر من فصيل «النجباء» في بغداد (موقع الحركة)
استعراض لعناصر من فصيل «النجباء» في بغداد (موقع الحركة)

«كَبُر الأولاد»

لا يتراجع حجم التأثير الإيراني بسبب تراجع محور المقاومة فقط، بل لأن «الأولاد كَبُروا»، كما يصف الباحث هشام داود الميليشيات والفصائل؛ إذ «باتت لهم قواعد زبائنية ومصالح محلية ضاغطة داخل العراق، لا يمكن ضمانها فقط بالتبعية المطلقة لإيران».

يقول داود، المتخصص في الأنثروبولوجيا السياسية: «حتى الأمس القريب، كانت الفصائل والأحزاب الموالية لإيران أكثر استجابة لضغوط طهران. كان هناك تناغم بين المصلحة الإيرانية وواقع الفصائل العراقية، التي لم تمتلك وقتها قاعدة اجتماعية، ولا مصادر مالية، ولا خبرة عسكرية كافية».

تشكل هذه الفصائل اليوم الجزء الأساسي من حكومة السوداني: «بدلاً من أن تكون خارجها أو موازية لها»، بحسب الباحث داود الذي يرجح أن «تضع التغييرات ذات الطبيعة البنيوية العميقة الفصائل العسكرية العراقية أمام خيارات حادّة: إما الاحتفاظ بمكاسبها الاستراتيجية مقابل تسريح مجاميعها المسلحة ودمجهم كموظفين وعاملين في آليات الدولة، أو تعرضهم لتهديدات إقليمية ودولية، خصوصاً بعد الزلازل في سوريا».

لهذه الفرضية انعكاس واقعي داخل «الإطار التنسيقي»، حين تظهر أحزاب شيعية في حلبة مفتوحة بقواعد اشتباك أقل تحفظاً، وفقاً لسياسيين شيعة أكدوا أن «النزالات تخضع لرقابة إيرانية عن بُعد».

محمد شياع السوداني يتوسط نوري المالكي ومسعود بارزاني في بغداد (إعلام حكومي)
محمد شياع السوداني يتوسط نوري المالكي ومسعود بارزاني في بغداد (إعلام حكومي)

نزال المالكي – السوداني

لم يحتمل «الإطار التنسيقي» إخفاء النار التي تغلي تحت مكاتبه. وفي مطلع يناير (كانون الثاني) 2025، منح زعيم «تيار الحكمة»، عمار الحكيم، سياقاً للصراع الشيعي - الشيعي.

قال الحكيم إن قادة أحزاب شيعية يرون أن السوداني، الذي كان يملك مقعده اليتيم، صار رئيساً للحكومة بفضل اختيار «الإطار التنسيقي»، وأن هذا الأخير هو الذي «أخذه إلى هذه الإنجازات».

بحسب الحكيم، الذي يروّج تياره لفكرة «الاعتدال الشيعي»، فإن قادة «الإطار» الناقمين على السوداني يرفضون نزوله من السفينة لقطع تذكرة في رحلة منفردة. يتساءل هؤلاء: «لماذا نأتي بشخص حتى يكبر علينا؟».

من الواضح أنها «عقدة رئيس الحكومة» المتأصلة في المجتمع السياسي الشيعي، كما يصفها مستشار سياسي كان يعمل في حكومات ما قبل 2019. ونوري المالكي أحد المتأثرين بها، الذي يريد الآن «وصاعداً» منع رئيس الحكومة من استثمار هذا المنصب، ربما لأنه أدرك تأثيره وسحره الذي يؤثر في كل مرة على نتائج الانتخابات.

يقول المستشار (الذي طلب عدم الكشف عن اسمه بسبب حساسية سياسية) إن السوداني يستنسخ المالكي الأول (حكومة 2006 - 2010)، إذ كان الأخير يستثمر في دولة مركزية وقطاع عام يقدم ولاءات حصرية للمنصب.

إلا أن السوداني عمّق قلق الإطاريين. يقول القيادي في حزب «الدعوة الإسلامية»، إن المالكي مثلاً «لا يشعر بالارتياح منذ فترة لطريقة تعامل السوداني مع مجلس الوزراء، الذي يحتاج إلى إشراكه في آليات إصدار القرار، حتى وصلنا اليوم إلى أن نعيش مع رئيس حكومة «مطلق اليدين».

يعتقد القيادي المنتمي إلى حزب المالكي أن السوداني تجاوز الخطوط التقليدية المتفق عليها داخل «الإطار التنسيقي» في إدارة الحكومة. لقد «سافر إلى قطر والتقى الرئيس السوري أحمد الشرع، دون أن ينسق مع التحالف الحاكم، متحولاً إلى نقطة التقاء إقليمية».

يرجح القيادي في «الدعوة»، بلهجة «أعرف ما سيحدث»، أن تنفجر بوجه السوداني ألغام «سيحتاج إلى كثير من القوة لعبورها بسلام قبل الانتخابات».

الحياة السياسية العراقية معتادة على الألغام. ثمة خبرات متراكمة في زرعها أو إزالتها قبل التفجير، لكن السوداني يجرب الأمر للمرة الأولى، وفي رأسه خطط متضادة ومزدحمة، كما يصف سياسي مطلع.

يقول السياسي لـ«الشرق الأوسط»، إن إيران المتراجعة تلعب أدواراً دقيقة للغاية في التأثير على التحالفات؛ إذ تفرض على السوداني قوى مسلحة لضمان حمايتها، إذ إن طهران تتعامل مع رئيس الحكومة بوصفه رقماً صعباً فلماذا تخسره؟

رفض أعضاء في «تيار الفراتين» الذي يتزعمه السوداني التعليق على خططه الانتخابية، إلا أن مصادر مطلعة على مفاوضات تشكيل التحالفات قالت إن رئيس الحكومة اصطدم مع رئيس منظمة بدر، هادي العامري، حول زعامة التحالف المفترض بينهما.

وفق المصادر، فإن السوداني اشترط زعامة التحالف على حساب العامري المخضرم، وأن يقر بدعم ولاية حكومية ثانية.

شيء تعجيزي ينبض في هذه الشروط. يعتقد سياسيون ضالعون في المفاوضات الانتخابية أن السوداني يريد التخلص من الجيل الأول من قادة «الإطار التنسيقي»، لا سيما الذين تفوح من مكاتبهم رائحة «طوفان الأقصى»، لكن المصادر تقول إن رئيس الحكومة يدرك الألغام فيجذب إليه حلفاء يقدمون الحماية.

عادل عبد المهدي خلال جنازة سليماني في بغداد - 4 يناير 2020 (أرشيفية - رويترز)
عادل عبد المهدي خلال جنازة سليماني في بغداد - 4 يناير 2020 (أرشيفية - رويترز)

«ليس مهماً لون القطة»

تعلمت إيران درساً من ولاية عادل عبد المهدي (2018 - 2019)، التي يراها تيار احتجاجي ومدني عراقي «مأساوية». يومها كانت طهران في ذروة شعورها بالغرور وتريد السيطرة على غرب آسيا بعد تصفير المصالح الأميركية، كما يقول المستشار العراقي السابق.

في الفترة التي تولى فيها عبد المهدي، القيادي المخضرم المتحدر من «المجلس الإسلامي الأعلى» الذي تشكل في إيران عام 1982، كانت طهران تجني ثمار إعادة تموضع الفصائل الموالية لنظام «ولاية الفقيه». لقد تمددت الكيانات الموازية على الكيانات الأصيلة، لولا احتقان الشارع، في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019، الذي أحدث اختلالاً نسبياً في علاقات النظام السياسي العراقي، رغم مقتل أكثر من 600 شاب عراقي.

لاحقاً، بدا أن إيران أدركت خطأها في التفرُّد التام بمسرح العراق، وأن عليها العودة إلى الصيغة القديمة. يقول الباحث العراقي هشام داود، إن «طهران أفلحت، منذ 20 عاماً، بإقناع أو إجبار واشنطن بأنه من الأفضل للطرفين أن يديرا معاً الشأن العراقي، وأن هذه الثنائية لإدارة الشأن العراقي هي التي تكون مسؤولة عادة عن إدخال بعض التغييرات والتموضعات في الحياة السياسية العراقية».

يصف المستشار السابق الأمر بالنسبة للإيرانيين مع الوضع الحساس مع النفوذ الأميركي بأنهم «لا يكترثون بلون القطة، المهم أنها تعرف كيف تمسك بالفأر»، ويضرب الحرب على «داعش» مثالاً على ذلك. ويتذكر المستشار حدثاً مماثلاً حين أفتت إيران لفصائل عراقية قبل عام 2003 بأن «أميركا شيطان أكبر، وستبقى كذلك، لكن لا بأس من التعاون مع هذا الشيطان لإسقاط نظام صدام حسين». قطعت هذه الفتوى تذاكر سفر لمعارضين شيعة نحو واشنطن تحضيراً لحرب الخليج الثانية.

في الضفة الاخرى، يتشجع كثيرون من السياسيين المحسوبين على الشيعة العلمانيين للقول إنها «لحظة يفرضها ترمب». أحد هؤلاء يقول لـ«الشرق الاوسط» إنه زار واشنطن مرتين قبل تنصيب الرئيس الأميركي وبعده في يناير (كانون الثاني) 2025، إن «الانتخابات المقبلة يجب أن تتأثر بتحولات المنطقة، وإلا فسيخرج العراق من مسرح الشرق الأوسط الجديد».

المرشد الإيراني علي خامنئي قال إن ما يجري «أمر مؤقت بتقدير إلهي» (موقع المرشد)
المرشد الإيراني علي خامنئي قال إن ما يجري «أمر مؤقت بتقدير إلهي» (موقع المرشد)

إيران: «الخطة ب»

ثمة تفسيران لدور إيران في العراق هذه الأيام، يفيد الأول بأنها «لا تظهر أمام أعين الإدارة الأميركية في بغداد لإقناعها بأن الساحة لها، وأنها تركز على المفاوضات»، بينما يقول الثاني إن «إيران منهكة ولديها داخلياً ما يكفيها، لكنها ستعود».

لكن فريق قاآني «يضبط حسابات (الخطة ب) في بغداد»، كما يقول سياسيون شيعة. وتفيد إشارات محدودة تسربت من اجتماعات نخبة شيعية في بغداد بأن طهران تريد الآن 3 أمور أساسية قبل الذهاب إلى الانتخابات: «أن تمنع في لحظة ارتخاء الحبل بروز تيار شيعي قد يتحول مستقبلاً إلى خصم، وهذا محكوم بتاريخ طويل من الحساسيات، وأن تحمي المساحة المصممة والمحددة للتنافس الانتخابي بين القوى الشيعية في العراق، وأن تحافظ على حيوية السوداني والمالكي معاً حتى لو تصارعا؛ إذ سيكون الأول خياراً استراتيجياً في حال نجحت المفاوضات مع الأميركيين، والثاني سيكون مهماً في حال فشلت».

يقول القيادي في حزب الدعوة إن «إيران تحول دون انتقال التنافس الشيعي - الشيعي إلى الاقتتال، لكنها في (الخطة ب) ستنحاز حتماً إلى أحد القطبين لو عاد التيار الصدري إلى الانتخابات».

يقول مطلعون على خطط التيار الصدري إن التيار يتعمّد تأجيل إعلان قراره بشأن العودة إلى الانتخابات حتى اللحظات الأخيرة، بهدف تقليل فرص خصومه السياسيين في التحشّد ضده أو الاستعداد لمواجهته.

«ملتقى روّاد الانتخابات»

تتحوّل الانتخابات في العراق إلى ما يشبه «ملتقى روّاد الأعمال»، إذ يشارك الجميع «لزيادة أسهم النفوذ، وبالنسبة لكثيرين جدد فإنها فرصة لدخول نادي الكبار»، وفقاً لتعبير مرشح شيعي شارك في أول دورتين انتخابيتين بعد عام 2003.

يقول المرشح، الذي تقاعد عن العمل السياسي وفضّل مراقبة الأحداث عن بُعد، إن الإيرانيين يواجهون «أولادهم الذين اشتدّ عودهم داخل المؤسسات الحكومية التي توفّر لهم عقوداً وموارد». يقول إن «بعضهم يستطيع اليوم التبرع لـ(الحرس الثوري)، وليس العكس».

هذه الدينامية المعقّدة تُقلق الباحث هشام داود؛ يقول إن «حصيلة 20 عاماً من حاكميّة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي جاءت أكثر من محبطة: اقتصاد ريعي وحيد المورد بالمطلق، غياب تام لرؤية اقتصادية، جهل بفنّ إدارة المجتمعات المركّبة، وعدم معرفة حتى بآليات السوق، بالإضافة إلى صعوبة التواصل مع المحيط الإقليمي والعالمي، والخلط حتى بين سياسة خارجية ودبلوماسية، وتحوّل الفساد إلى منظومة».

وفي الطريق إلى الانتخابات المقبلة، يرى داود أن مسارين متوازيين يتحرّكان معاً نحو موعد الاقتراع المقرّر في نوفمبر 2025: «الفشل في بناء نموذج دولة بإدارة عقلانية، وضغوط إقليمية ودولية لا تتوقّف».