البوصلة اختراع إنساني بديع، ننسى أغلب الأحيان لأسباب عديدة أهميتها وأفضالها علينا في خضم ما وصلت إليه الإنسانية من تقدم تكنولوجي بالغ التعقيد.
البوصلة آلة صغيرة الحجم، في حجم راحة يد طفل رضيع أو أكبر قليلاً، عظيمة الفائدة، ولا يمكن الاستغناء عنها، ولولاها لوقعنا في فخاخ متاهة دوخان لا أحد يعلم مداه، ونحن نخوض تائهين في مسارب وتعقيدات أحوال الدنيا وجهاتها، وعادة ما يحدث ذلك حين ترتبك، من دون علمنا، بوصلاتنا البشرية، أو تضيع.
قباطنة السفن وربابنة المراكب، والطيارون، والرحالة... إلخ كلهم في حاجة إلى بوصلات. ولا يتوقف الأمر عندهم، بل إن السلسلة تطول حتى تصل إلى الرجل العادي في الشارع.
وأكثرنا حاجة إليها، في رأيي، هم المحللون السياسيون، وكتاب التعليقات السياسية أينما كانوا. ذلك أنهم من دون بوصلاتهم الداخلية يجدون أنفسهم خائضين في اتجاهات وطرق تقودهم إلى أخطاء فادحة، في تعليقاتهم وتحليلاتهم، تجعلهم يعضّون كل أصابع اليدين في مرة واحدة ندماً.
بوصلة ربان السفينة واضحة الحجم والشكل ومعروفة. وبوصلة الكاتب والمعلق السياسي داخلية، من دون شكل ولا حجم، وتتشكل بمرور الوقت، وتكتسب عبر الممارسة اليومية، ومن خلال المتابعة والرصد الدائمين للشأن المحلي والدولي، والاعتماد على ما تراكم من خبرات وتجارب ومعلومات، وعلاقات شخصية مع جهات وأشخاص.
وفي خضم الأحداث التي تهز عالمنا هذه الأيام، تبدو الفروق واضحة بين المعلقين السياسيين في القدرة على تقديم قراءات سياسية للأحداث تقترب من الدقة، وليس شرطاً من الحقيقة. وهو ما يهمّ القارئ أو المستمع والمشاهد. والسبب وراء ذلك أن بعضهم يمتلك بوصلة سياسية أفضل من غيره، بخيوط وعلاقات متنوعة ومتعددة، تساعده على إيجاد طريقه وسط ركام الأنقاض ودخان الحرائق، سعياً وراء الوصول إلى الهدف.
الأصدقاء قد يكونون أحياناً بوصلات مفيدة جداً، وبخاصة الأذكياء والنجباء منهم، ممن يحرصون على فهم ما يحدث من حولهم من أحداث في العالم، ويرصدون الدنيا وهي تدور بهم ومن حولهم، ويمتلكون حاسة إخبارية –سادسة- من خلالها يمكنهم التنبؤ بدقة بالطريق الذي سيتجه نحوه حدث سياسي ما.
وما دعاني للخوض في هذا الموضوع، هو أنني، في الفترة الأخيرة، وجدتني ألهث مرهقاً وراء متابعة ورصد ما يحدث من تطورات على مختلف الساحات الدولية. واكتشفت أنني في حاجة إلى أكثر من عينين لأتمكن من المتابعة والرصد. وتبين لي كذلك أن ما يحدث في قطاع غزة في حاجة إلى عيون عديدة، مضافاً إليه ما يحدث في أوكرانيا وفي السودان من حروب وقتل وتدمير. ثم هناك أيضاً المعارك الانتخابية في بريطانيا وأميركا والهند وجنوب أفريقيا... إلخ. وكل واحدة منها تحتاج إلى أكثر من عينين، وإلى ذهن قادر على استيعاب المعلومات الكثيرة، وتصفيتها بفلترات، ليكون قادراً على تكوين رأي بخصوصها. ويحدث أحياناً، وسط ذلك الخضم، أن ترتبك بوصلة المرء لسبب ما، فيتبعها، ومن دون علمه يجد نفسه أنه يبتعد في كل خطوة يخطوها عن الهدف المقصود، ويضيع تائهاً في كل الاتجاهات إلا الاتجاه المقصود. وفجأة، يرى يداً صديقة تمتد نحوه، تمسك بيده بقوة وتنتشله كما ينتشل غريقاً، وتعيد وضعه على الطريق الصحيح.
وما حدث باختصار، هو أنني باندفاع كتبت تعليقاً على الانتخابات النيابية في جنوب أفريقيا. واستندت فيه على ما استقيته من مصادر إعلامية غربية من معلومات وإحصاءات. وكلها تدعو إلى الإحباط، وتوهن العزائم. ولدى انتهائي من الكتابة، عرضته على صديق للاستفادة من ملاحظاته وآرائه. وحسناً فعلتُ.
صديقي بهدوء، اعتدته منه، نبهني إلى الدور الإنساني والشجاع الذي تقوده جنوب أفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم في المحاكم الدولية وفي المحافل الدولية لوقف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وسعيها إلى إدانة المعتدين. والثمن أو الأثمان التي دفعتها وقد تدفعها مستقبلاً لقاء ذلك. والأولى بكاتب تعليق سياسي ألا ينسى ذلك، ويحرص على تذكير نفسه وقرّائه به دوماً، ويتجنب ما أمكن الخوض فيما يمكن تجنّبه مؤقتاً، عملاً بمبدأ الأهمّ قبل المهم.