حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

من الأرض إلى الفضاء... أزمة أنغلوساكسونية

استمع إلى المقالة

في سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية يبدو مشهد الإعادة بين الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أشبهَ بصراع الديناصورات التي شارفت على الانقراض. الرجلان ينتميان إلى حقبة زمنية مضت، تاريخية بالمعنى الحرفي للكلمة، اليوم الرجل الأبيض الأنغلوساكسوني عرقياً يشكل نسبة لا تتجاوز الأربعين في المائة من إجمالي عدد السكان في الولايات المتحدة، وهي نسبة تتناقص لحساب الأقليات المتصاعدة من أمثال اللاتينيين والأفارقة والآسيويين.

اليوم، وفي مدن كثيرة من الولايات المتحدة بعيدة عن حدودها الجنوبية، توجد أعداد مهولة من المهاجرين القادمين من دول أميركا الجنوبية، مما يجعل أميركا فعلياً، بحسب وصف أحد المعلقين السياسيين، «أنها باتت فعلياً إحدى دول أميركا اللاتينية».

إحساس الرجل الأبيض بأنه فقد السيطرة على بلاده التاريخية، وأنه بات أقلية فيها، هو الذي يدفع بالخطاب التصادمي ويعزز الاستقطاب في المجتمع، وبالتالي يستغل بعض الساسة هذه المسألة لبث الرعب والخوف والذعر في قلوب الناخبين البيض من الآخر، وانتخاب من سيحميهم مهما كان متطرفاً. وهذا الوضع ليس محصوراً في أميركا، ولكن حتى بريطانيا تعاني من نفس المشكلة؛ إذ تبلغ نسبة السكان البريطانيين البيض الأصليين في العاصمة لندن 21 في المائة فقط من عدد سكان المدينة.

تاريخ الاستعمار «الأبيض» حافل بالمواجهات العرقية المباشرة وغير المباشرة، فالرجل الأبيض هو الذي قضى على الهنود الحمر سكان أميركا الشمالية الأصليين، وكذلك كان الأمر بالنسبة لسكان أستراليا الأصليين الأبوريجينيين عندما تم الخلاص منهم من قبل الإنجليز، والأمر نفسه تكرر في جنوب أفريقيا عن طريق الهولنديين والإنجليز بحق السكان الأفارقة الأصليين، والقهر الذي تسببوا فيه لهم، وطبعاً كانت مذابح سكان أميركا الجنوبية الأصليين من قبل الهولنديين والإسبان والبرتغاليين شهادة إبادة أخرى.

وعرف العالم أبشع أنواع الاستعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتم تكريس فكرة «فوقية» حضارة الرجل الأبيض و«دونية» غيره.

واستُخدمت الشركات المتعددة الجنسيات والمدارس والجامعات لتكريس فكرة الاستعمار غير المباشر وترسيخ قيمهم والترويج لها.

وعلى ما يبدو أن الرجل الأبيض وجد ضالته، في استمرار سعيه لإبقاء السيطرة على مراكز القوى في العالم، وإبقاء فكرة البقاء للأقوى قائمة؛ وجد ضالته في الفضاء. كان لافتاً عندما أسس دونالد ترمب وحدة جديدة في القوات المسلحة الأميركية وهي وحدة الفضاء، تباحث الناس فيما بينهم عن أهدافها وتوجهاتها دون الحصول على إجابات شافية وكافية. ولكن كتاب «مستقبل الجغرافيا: كيف ستغير القوة والسياسة في الفضاء مستقبل العالم؟»، للمؤلف تيم مارشال، يحاول بجدية الإجابة عن بعض هذه الأسئلة المهمة. يقول مارشال إن الفضاء لعب دوراً في الوجدان الإنساني منذ القدم، فهو موضع الحياة بعد الموت، وموضع الروحانيات، وموقع مستقبل البشرية المحتمل بعد نضوب الموارد على الأرض.

لقد تنقل الإنسان من أرض إلى أرض، من جزيرة إلى جزيرة، ومن قارة إلى قارة، وعلى ما يبدو أنه موعود للتنقل من كوكب إلى كوكب عما قريب.

يقول مارشال إن الفضاء به من الجغرافيا أكثر مما نتصور بكثير، لدينا ممرات آمنة نسافر ونتنقل خلالها، مخاطر نتلافاها، أراضٍ للاستيطان فيها. أميركا والصين وروسيا والهند لديهم خطط مهمة للسيطرة على الفضاء تشتمل على أقمار اصطناعية واستراتيجيات لإثبات الوجود الدائم في الفضاء وتحقيق المصالح، وهناك العديد من البرامج الفضائية لدى دول أخرى. الفضاء لديه دور أعظم مما سبق تخيله في رسم مستقبل البشرية. إنه سباق الاستعمار البشري الجديد.

دورات صعود وهبوط الأمم والإمبراطوريات سُنة لا يمكن إغفالها في حركة التاريخ، فمنها تولد الدروس والعبر والفائدة، ويعلمنا التاريخ أن الأمم التي استطاعت أن تمدد في حقبة قوتها وفترة نفوذها هي التي تمكنت من إبقاء نفسها في دائرة التأثير لأطول فترة ممكنة، وتغيير قواعد اللعبة وتصعيبها على الغير من المنافسين لها كلما اقتربوا منها. وعلى ما يبدو فإن ساحة الفضاء هي مجال المعركة القادمة بين الأمم والقوى الكبرى، وستكون الترسانة الأساسية فيه مكونة من العلم والمال.