تعود القمة العربية لتنعقد اليوم في المنامة، عاصمة مملكة البحرين، ويكاد انعقادها السنوي يعيد إلى الذهنية العربية، بل إلى الضمير العربي، صيحة المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد
وتنعقد القمة هذه المرة وسط أجواء دولية قاتمة، وأوضاع إقليمية مزعجة، وأيُّ إزعاج أكبر مما يحدث في غزة والضفة الغربية، حيث يسيل الدم الفلسطيني، وينهار البناء العربي، مدناً وقرى، سياسة ومصالح، بشراً وشجراً وحجراً؟
فإذا أضفت إلى ذلك ما يجري في السودان من تمزق، وفي الصومال من تهرؤٍ، وفي لبنان من عجز، وفي سوريا من بكاء على الأطلال، وفي ليبيا من «وقف الحال»، وفي تونس والمغرب العربي، في عمومه، من اضطراب، وفي الهلال الخصيب من المؤامرات، وفي الخليج العربي من تهديدات قد تمس استقرار دوله، بل واستقلالها... ستتضاعف المسؤولية على القادة المجتمعين في المنامة. وسيكون لزاماً عليهم أن يتعاملوا مع تحدٍّ جدّي للوجود العربي... أن نكون أو لا نكون. لم يكن هذا مطروحاً من قبل، أو مطروحاً بهذه الصراحة وذلك الوضوح.
أولاً: أتوقع أن تنعقد القمة هذا العام ليس لعدد قليل من الساعات؛ ليتسابق الحضور في العودة إلى عواصمهم، وقد أدّوا الواجب إذ حضروا، دون أن يتيحوا الوقت الكافي لاستثماره في صياغة مواقف تتعامل مع المشكلات المطروحة، بما يتطلبه التحدي من مواقف وإجراءات يصوغها العقل العربي الجمعي في مواجهة وضع سلبي لم يحدث مثله من قبل، على الأقل بهذا الشكل الذي يعد إهانة سياسية واستخفافاً استراتيجياً بالعرب في مجموعهم.
ثانياً: لم يحدث من قبل أن سمح النظام الدولي لدولة صغيرة مثل إسرائيل بأن تمثِّل استثناءً إزاء القانون الدولي وإزاء قيم حقوق الإنسان، بل اخترع لها حق دفاع شرعي خاصاً بها لا ينطبق على دولة غيرها... حق دفاع شرعي ضد السكان المدنيين في الأراضي المحتلة، الذين ينص القانون الدولي على حمايتهم في أوقات الحروب.
لم نسمع من قبل أن مجلس الأمن سمح باستمرار جريمة إبادة جماعية (Genocide)، برفض إصدار قرار بوقف إطلاق النار، بحجج غاية في الهراء السياسي والخواء القانوني. لم نسمع من قبل بمواقف دولية تعمل على تمكين «المرتزقة» من التنافس على حكم بلد مهم أفريقي عربي مثل السودان، ومواقف أخرى تكرس قيام كيانين حكوميين داخل دولة واحدة، مثلما يحدث في ليبيا؛ ليقضي على استقرارها ونمائها إلى أن تقضي الدول العظمى أمراً كان مفعولاً.
والحال يتكرّر في جلّ أركان العالم العربي، وهو الأمر الذي إذا تُرك على ما هو عليه، فلا بد من توقع حدوث الانهيار الكبير في العالم العربي.
هل يمكن أن تجتمع القمة العربية دون أن تتعرض لذلك كله، وأن تعطيه من الوقت والانتباه ما يتطلبه من يقظة ومسؤولية، وأن تُصدر بشأنه من المواقف والمبادرات ما تراه يعبِّر عن الشأن العربي على هذا المستوى الرفيع من الملوك والرؤساء والأمراء العرب؟ لا أعتقد ذلك.
ثالثاً: إنَّ الأمر لا يتعلق فقط بمخاطبة الدول العظمى والأخرى على المستويين الدولي والإقليمي، بل الأهم مخاطبة الرأي العام العربي والأجيال الصاعدة فيه بما يقنعهم، وهم الذين بدأ اليأس يأكل قلوبهم، من المستوى المتدني الناجم عن شعورهم بالإهانة الموجهة إليهم بصفتهم بشراً ومواطنين في دول عربية ينتظرون من قادتهم الحاليين أن يقيلوهم من العثرة التاريخية المعاصرة، وأن يحموا هويتهم.
رابعاً: نعم هناك خلافات يصل بعضها إلى ما يمكن وصفه بالخلافات الجذرية، ولكن هناك أكثر من طريقة للتعامل مع هذا الوضع، ليس من بينها بالضرورة الصراخ أو العراك، وإنما طرحٌ رصين يليق بمستوى القمة وشرحٌ أمين لأسباب اتخاذ ذلك القرار أو إقرار تلك السياسة، وكيف يمكن التوفيق بين قرار ما وبين المصلحة السياسية العربية المشتركة.
خامساً: إنَّ قرارات عربية عاقلة وحاسمة فيما يتعلق بضرورة إنهاء الموقف المضطرب في ليبيا، وفق خطوات تُحْسن القمةُ صياغتَها، وضرورة مساعدة تونس في الحفاظ على استقرارها، ورفض أن يتولى «المرتزقة» رئاسة السودان تحت أي ظرف من الظروف، مع موقف موازٍ حازم برفض العودة إلى حكم أقلية تدّعي نصرة الدين، مع تشكيل لجنة قمة لمساعدة السودان على العودة إلى وضع طبيعي مستقر، هو ما ينتظرها أي مواطن راشد من القمة القادمة. ومثل هذا يمكن المطالبة به في صدد لبنان وسوريا والصومال وربما غيرها.
سادساً: الوضع الإقليمي، وما يجب أن يكون عليه موقف العرب من السياسة الإيرانية والمقاربات التركية، والوضع في البحر الأحمر وفي المياه العربية على اتساعها، وما بها من ثروات، سواء كانت في الخليج العربي أو المحيط الهندي أو البحر الأبيض، يستدعي نظرة من القمة.
سابعاً: إنَّ اتخاذ قرارات قوية وواضحة حيال ما يحدث في غزة يظل أمراً مُلحاً على قائمة الانتظار من جانب الرأي العام العربي، وصدور قرار رصين للقمة العربية يوضح الموقف العربي –على الأقل للتاريخ– يمكن أن يضع الأمور في وضعها الصحيح، ويسهم في خلق جو إيجابي في عموم العالم العربي.
كل هذا وغيره يحتّم أن يجتمع له العرب على أعلى مستوياتهم، مثلما يحدث في المنامة اليوم، وأن يأخذوا في ذلك وقتهم.
امكثوا في المنامة يوماً وبعض يوم، وليس ساعة أو بعض ساعة.
الأمر جَلَل، واللحظة حاسمة... والله يساعد مَن يساعدون أنفسهم، وهو الموفِّق والمستعان، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.