لا يتوفر أي تماس حدودي بين إيران وإسرائيل، وأقرب مسافة بين البلدين تقترب من 2500 كيلومتر، وهي تحتاج إلى وقت طويل لقطعها أياً كان شكل الانتقال، حتى الطائرات والصواريخ تحتاج كثيراً من الوقت للوصول إلى إسرائيل أو إيران، ولا يعد الوقت المشكلة الوحيدة في طريق إيران إلى إسرائيل وبالعكس، وإنما تضاف إليه مشكلة أخرى، وجود بلدان عربية تفصل بين الجانبين، تمتد على طول المسافة وفق خط السير الذي سيتم المرور به، وصولاً إلى المكان الهدف.
ووفق الاحتمالات المتعددة، يمكن أن تمر طريق إيران إلى إسرائيل عبر أجواء شمال الخليج العربي وبلدان تقع في شمال الجزيرة العربية والأردن، حيث تصبح أغلب حدود إسرائيل الشرقية منطقة وصول إيراني، كما يمكن أن تنطلق الطريق نحو إسرائيل من غرب إيران قاطعة أجواء العراق إلى جنوب سوريا، عابرة إلى الجولان أو مارة بشمال الأردن إلى وسط وشمال إسرائيل، ولعل هذا الخط هو الأقرب والأسهل في الواقع خاصة، إذا استبعد المرور عبر الأردن، حيث متاح لإيران أن تبدأ الخط من نقطة ما في العراق أو سوريا، نتيجة روابط البلدين بعلاقات قوية معها، وانتشار القوات الإيرانية وميليشياتها في عشرات المواقع وفي أغلب المطارات في سوريا.
ورغم أن مسافة خط الذهاب الإسرائيلي إلى إيران تقارب الخط الإيراني، فإنها تختلف في جوانب عدة، والأهم في الاختلاف أن ذلك لا يوفر ما لإيران من مكانة ووجود سياسي وعسكري في العراق وسوريا، والنقطة الثانية أنه رغم التشابه في ممارسات العدوان والنزعات التوسعية، والعنصرية، التي يتشارك الإسرائيليون والإيرانيون ممارستها حيال العرب ودولهم، فإن إسرائيل ما زالت عدواً لدى الأكثرية العربية، وإيران في أسوأ الأحوال خصماً، رغم أن ميليشياتها وقواتها حاضرة وتقاتل علناً في أربعة بلدان عربية بعد أن وضعتها في أتون حروب داخلية، مما يعني أن طريق الإسرائيليين إلى إيران لن تكون مماثلة لطريق الإيرانيين إلى إسرائيل، إذ على الأخيرة أن تناور وتتخفَّى، وأن تتشاور وأن تحظى بموافقات أو بصمت يتصل بقيامها باجتياز المسافة أو اختصار بعض منها.
لقد قدمت التجارب الأخيرة في الاشتباك الإسرائيلي - الإيراني حالات من الجدار العربي الذي اجتازه الطرفان للوصول إلى حيز التأثير المسلح القوي على الآخر، والتي كانت تجربته الأولى عملية القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتل أهم رجالات طهران في سوريا، وكانت مقدمة انتقال الطرفين إلى مرحلة جديدة، جرى فيها الوصول الإسرائيلي إلى إيران في سوريا عبر أقرب المسافات، وأقل درجات ارتفاع الجدار العربي الذي أعطى إيران، ما لم تحصل على مثله من وجود عسكري مسلح في أي بلد عربي، كما أن ذلك أطلق يد إيران في قرار استخدام السلاح، حيث رغبت، وضد من أرادت وفي أي وقت شاءت، وقد امتنعت على مدار سنوات عن الرد على عمليات إسرائيل ضد قواعدها وميليشياتها في سوريا، مما جعل العملية الإسرائيلية على قنصلية إيران خارج فكرة الجدار العربي، أو في المستوى الأدنى منه، وقد جعلته إيران قاعدة سلوكها في التعامل مع إسرائيل في سوريا.
ولأن إيران تعد أن مصلحتها عدم تغيير قاعدة سلوكها في التعامل مع العمليات الإسرائيلية في سوريا، ولأنها مضطرة للرد بسبب طبيعة عملية القنصلية وآثارها المتعددة الأبعاد، فقد فتحت خيار الرد المباشر، مستندة إلى مبرراته من حيث الأهداف والترتيبات، ومنها ضرورة أن تقوم إيران بخطوة عسكرية، تكسر سكوتها عن صلف إسرائيل واستهانتها بإيران وقواتها في سوريا، وأن تأخذ إيران الأمر بيدها، وليس عبر أدواتها، التي تنشغل أبرزها، أعني «حماس»، و«حزب الله»، في اشتباك مع إسرائيل، فيما البقية أقل خبرة وقدرة من القيام برد، والعامل الثالث في توجه إيران إلى رد مباشر، أن لديها تجربة مسبقة في رد عسكري شكلي، متفاهم عليه مع الولايات المتحدة بعد قيام الأخيرة بإعدام كبير رجال إيران في المنطقة قاسم سليماني في مطار بغداد، وقد فضح الرئيس دونالد ترمب الاتفاق علناً.
ومن المؤكد، أن طهران وجدت في رد شكلي مباشر مخرجاً من المأزق الذي صارت إليه بعد قتل رجالها وتدمير قنصليتها في سوريا، وثمة أمران آخران دعما فكرة اللجوء إلى رد إيراني مباشر، الأول إيصال رسالة للجميع حول قدرات إيران في إنتاج واستخدام الأسلحة الصاروخية والطائرات من دون طيار، مما يدعم تصورات إيران عن القوة، شاملة إلى ما سبق أعداداً كبيرة من جيش و«حرس ثوري» وميليشيات، والأمر الثاني أنها تفتح باب اشتباك محدود مع إسرائيل، لا بد وأن يترك أثره على المحيط العربي بأشكال مختلفة بينها إظهار إيران بوصفها قوة اشتباك مع إسرائيل، وأنها تشارك في الدفاع عن فلسطين والفلسطينيين في ظل الحرب على قطاع غزة، وتقديم نفسها بوصفها الأقرب إليهم، وكله يمثل خروجاً عن مألوف سياسات إيران وسلطة الملالي فيها.
وجسدت فكرة رد طهران المعلن، وشكله الاستعراضي في إطلاق مئات الصواريخ والطائرات من دون طيار، شكلاً من ضغط على المحيط العربي، ليس فقط من باب عدم اشتباكه مع الإسرائيليين على نحو ما تفعل إيران، إنما في التصدي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية وإسقاطها على نحو ما حدث في الأردن الذي لم تكلف طهران نفسها التنسيق معه، إنما تعمدت إحراجه في وقت كانت تدفع ميليشيات عراقية للتحشد على الحدود الأردنية؛ سعياً لإكمال الطريق لدعم الفلسطينيين في وجه إسرائيل، ودفعت الإسلاميين في الأردن للمطالبة بعودة «حماس» إليه بعد سنوات طويلة من مغادرتها، ولا شك أن ما سبق يتجاوز في رسالته الأردن إلى المحيط العربي، ولا سيما مجموعة الدول العربية الست، التي تضم الأردن وتُعد قوة التحرك العربي راهناً.
واتخذ الإسرائيليون مساراً مختلفاً عن الإيرانيين في ردهم على الصواريخ والطائرات من دون طيار، فابتعدوا عن تبني عملية قصف أصفهان التي يتفق العالم على أنها رد إسرائيلي، وبذلك تجنبوا الحديث عن طريق وصولهم إلى إيران، وأثاروا الالتباسات حوله من دون أن يثيروا حساسيات مع المحيط العربي والدولي في الحديث عن تعاملهم مع الجدار العربي الذي يحيط التعامل معه صعوبات أكثر مما تواجهه إيران.
وسط التطورات الجديدة في الاشتباك الإيراني - الإسرائيلي، ومسارات كل طرف في التعامل مع الجدار العربي الذي يفصل بينهما، فإن الوضع يتطلب تحركاً وموقفاً عربياً، يمنع الطرفين من استخدام الجدار العربي وانتهاكه لتمرير سياستهما ولفرض سياسات على العرب وبلدانهم، هم الأولى برسمها وتنفيذها انطلاقاً من مصالحهم، وليس في توافقها مع مصالح الآخرين، خاصة إذا كان أصحابها الإيرانيين والإسرائيليين.