قضيةٌ شائكةٌ هذه المعروضة أمام مجلسِ الدولة الفرنسي. هناك جهةٌ أجنبيةٌ تدّعِي الحقَّ في ملكية الموناليزا. تزعم أنَّ «اللوفر» لا يملك أوراقَ حيازتها. أي أنَّه يحتجزها غصباً عنها. هل يمكن لأشهر متحفٍ في العالم أن يطلقَ سراحَ أشهرِ لوحةٍ في العالم؟
مجلسُ الدَّولةِ الفرنسي هو السلطةُ القضائيةُ الأعلى في البلد. والجهةُ المشتكيةُ هي جمعية «الاسترداد الدولي». يقول الفرنسيون إنَّها جماعةٌ غامضة لا أحدَ يعرف مقرَّها. وهي تطالب بإلغاء حيازةِ الملك فرنسوا الأول للوحة «الجوكنده» الشهيرة بالموناليزا، درّة أعمال الرسام الإيطالي دافنشي.
لم تسِرْ أمور دافنشي على ما يرام مع عائلة ميديسي في إيطاليا. استبدلوا به الرسام رافاييل واتخذوه مهندساً لكاتدرائية القديس بطرس في روما ورساماً لقبابها. ذهب يشتكي عند البابا ليون العاشر دونما جدوى. ركب بغلة مع اثنين من تلاميذه وقطع جبال الألب إلى فرنسا ليحتمي عند ملكها. كان شتاء 1516 ثلجياً قاسياً. لكنَّه لم يعبأ بنفسه قدر اهتمامه باللوحات الثلاث التي غلّفها جيداً وحملها في متاعه. بينها «الجوكنده». قدّمها لفرانسوا الأول فكافأه بقصر و700 قطعة ذهب في العام. قال له: «لك فوق القصر كل الأرض المحيطة به، وحظائر الخيل، ولك أيضاً طباخة طفولتي ماتورين». ومن فرط امتنانه، انحنى الفنان الستيني وقبّل يد الملك البالغ من العمر 22 عاماً. انضمت الموناليزا إلى حريم اللوحات الملكية. وفي 1797 استقرت في «اللوفر».
جمعية «الاسترداد الدولي» لم تستعن بمحامٍ. يقول ممثلوها إنهم يعملون لحساب ورثة الرسام. ويأملون، في حال كسب الدعوى، أن يشطب «اللوفر» الموناليزا من لائحة مقتنياته. وهي، بالمناسبة، ليست أولى الكنوز المسروقة التي بنى عليها المتحف شهرته. إن أي عراقيّ يزوره يقف ذاهلاً تتناوبه مشاعر شتى. يخشع أمام مسلّة حمورابي وتستوقفه عظمة التماثيل الآشورية وروعة الثور المجنح. هل ننقم عليهم لأن موطنها أولى بها أم نعترف بفضلهم في المحافظة عليها وصيانتها؟
زار «اللوفر» صديقنا الكاتب صامويل شمعون (مؤلف عراقي في باريس) وتأمل جدارية فخمة تصوّر الملك الآشوري بانيبال. امتلأ فخراً وغمره دفء القرابة. عاد في اليوم التالي وواصل تأمل المنحوتة. وفي اليوم الثالث ذهب إلى مديرة المكان وقال لها: «من غير المعقول أن أشتري تذكرة الدخول في كل مرة أزور فيها جدّي».
والمخيلة شطّاحة. وهي أمّارة بالمشاكسة. ما الذي يمنع من أن أتقدم إلى مجلس الدولة الفرنسي بطلب لإلغاء حيازة «اللوفر» لآثارنا؟ سأفعل كما فعل القائمون على جمعية «الاسترداد الدولي»، ولن أحتاج لمحامٍ ولا لنفقات تقاضٍ. أتحرك باسم ورثة الأجداد الذين عمّروا بابل ونينوى. المهم ألا تتدخل سفارة أو حكومة أو وزارة ثقافة. سيفسد المسعى حتماً.
وحتى في هذه سبقتني جماعة «الاسترداد». تقدمت قبل سنتين بطلب لإبطال ملكية «اللوفر» لكل المقتنيات وثمار التنقيبات التي قامت بها وحدة الآثار في «جيش الشرق» الفرنسي بين عامي 1915 و1923. حفروا في أرضنا ونقبوا واستخرجوا وشحنوا إلى باريس. كما طالبت الجمعية بإعادة كل الكنوز الصينية التي نهبتها القوات الفرنسية من قصر بكين عام 1860.
مجلس الدولة لن يوافق. وهو ينوي أن يحسم القضية بقرار يكون سابقة لاحقة. مفاده أن الورثة الشرعيين المعروفين بالأسماء هم وحدهم من تحق له المطالبة باستعادة مقتنيات الأسلاف. لا الدول ولا الجمعيات ولا أعداء الاستعمار.
أين يولّي ملايين السياح اليابانيين والأميركان والروس وجوههم إذا لم تصافح أعينهم الموناليزا في «اللوفر»؟