عند دخول نفيسة إلى الحجز، متهمة في قضية آداب، استقبلتها النزيلات بأغنية تسخر مما ألحقته بإخوتها من عار. من بين إخوتها هؤلاء ضابط شرطة شاب مستقبله تعرض للخطر بسبب مهنتها الوضيعة. كل المعطيات تقول إننا سننحاز إلى الضابط الوسيم الذي أدى دوره عمر الشريف ضد فتاة الليل الرخيصة المقابل التي تؤدي دورها سناء جميل. هنا يأتي سحر الدراما، تستطيع تلك تغيير نظرتك إلى الشخصيات والسلوك، وأن تطلعك في الحياة على أبعاد وأسئلة لم تشغلك سابقاً. سمَت الدراما عام رأيناها في أعمال محفوظ الأخرى كـ«الثلاثية» و«اللص والكلاب»، وأعمال معاصريه، مثل «البوسطجي» و«دعاء الكروان».
ثم صار نادراً في دراما العقود اللاحقة أن نرى شخصيات درامية لا تنتمي إلى الفريق الأبيض أو الأسود. أنتجت «مدارس يوليو» عقليات تعرف بالضبط أين الحق، مشغولة بتحريه دوناً عن تحري الحياة الواسعة، بتنوع منطقها. شخصياتها تدور حول منطق وحيد، وهي توافقه فتسعد أو تعانده فتشقى. والنتيجة دراما تنتمي إلى ثنائية «الحلال بيِّن والحرام بيِّن»، وتقودك إلى التوبة وإلا العقاب الدرامي. وهو منطق ديني تربوي ابتكر الإنسان فن الدراما خصيصاً لكي يراوغه. القناعات الاجتماعية والفكرية هزمت كثيراً من أصحاب الموهبة المتميزة وصنعة الكتابة المشهودة، فلَوَت أعناق القصص والحوارات، وخنقتها بالانحيازات السابقة، فترى عملاً جميلاً تشوبه حوارات لا ترقى إلى مستوى الكتابة المتوسطة، وترى أفلاماً ملحمية مضحكة، وأفلاماً دينية دون أسئلة ولا فلسفة. نحن هنا، والعدو هناك. دراما وظيفتها تثبيت المجتمع على وضعه، نفس الأفكار ونفس المفاهيم ونفس الأحكام. فلا تشك في قناعة، ولا تراجع موقفاً. دراما سحبت الفن إلى قاعه، وأعلنت راية انتصارها بشعار «السينما النظيفة».
نظلم قطعاً الكتابة الدرامية في العقود السابقة إن لم نذكر استثناءات تمثلت في أسماء كبيرة استخدمت ثقلها الثقافي لكي تخرج من تلك المعادلة، أبرزهم وحيد حامد. لكن المشجع الآن أن موجة جديدة من صناع الدراما، بعضهم لا نزال نتعرف إلى أسمائهم، تقدم لنا في أعمالها المبكرة دراما حديثة المواصفات. شكراً لورش الكتابة، وتعدد مصادر الإنتاج، منحت صناعة الدراما المعاصرة حرية أكبر، انعكست في تنوع أوسع؛ لذلك أحب الدراما الجديدة، وأراها أرحب من الدراما الوعظية التي نشأنا عليها وأوسع أفقاً.
في كامل العدد، المصنف كوميديا اجتماعية، اختيارات شخصية خارجة على المألوف، لغة حوار طبيعية، وتعامل إيجابي مع طوارئ الأحداث، ومشاهد تمنحك انطباع السعادة وجريان الحياة وتبدل المشاعر، دون وعظ ولا توبيخ، لشخصيات من كل المراحل العمرية تعيش معنا في زماننا. كل شخصية تصنع مع المُشاهد ذكرى مشتركة واحدة على الأقل. كلٌّ يعيش حلمه الصغير، كلٌّ يواجه مصير ذلك الحلم، كلٌّ يعيش سعادته، وكلٌّ يعايش انكساره، في الحب والأخوة والصداقة والزواج، من خلال قصة نرى فيها مفردات حياتنا.
في «أعلى نسبة مشاهدة»، و«صلة رحم»، و«بدون سابق إنذار»، نعيش مع الأبطال اختيارات صعبة، حائرة بين الصواب والخطأ. ورغم أن هذه المسلسلات قدمت مادة ملائمة للمونولوجات الوعظية المعتادة التي تبدو منقولة من خطابات الاتحاد الاشتراكي، لكنها نجحت في تجنب ذلك، باستثناء بعض التدخلات الرقابية الواضحة لعين المشاهد.
والرقابة على الدراما ليست أخلاقية فحسب. ثمة نوع آخر من الرقابة أشد صرامة على المسلسلات التاريخية والدينية، حيث تتقاطع هذه الدراما مع أفكار أو شخصيات أو مفاهيم أريد لها أن تكون مقدسة. ربما كان الهدف من ذلك التدخل الرقابي الصارم في الدراما التاريخية مدفوعاً سياسياً، وإن أظهر غير ذلك. أراد العروبيون والبعثيون أن تخرج الشخصيات التاريخية الرمزية بيضاء نقية كأوراق الفُل، ناجزة كسيف يَفُلّ. لكن المفارقة الساخرة أن تلك الدراما لم تُفد سوى «الإسلامجية»، وجاءت مصدقة للنسخة الإعلانية الدعائية التي يقدمونها لتاريخ الحكم السياسي في الإسلام.
مع «الحشاشين»، وبغض النظر عن تقديم أبي حامد الغزالي بديلاً، فتلك قصة أخرى، رأينا دراما تاريخية لا تنفصل زمنياً عن عقل المشاهد، ولا تحظى بالتمجيدات المعتادة لماضٍ جعلوه ذهبياً رغم أنف التاريخ والشواهد. دراما لا تقتصر على صراعات القمة، ولا تشعرك بأن شخصياتها روبوتات مشحونة ببطارية التقديس. لعلها تكون فاتحة لدراما تتعامل مع الشخصيات التاريخية بموضوعية، دون تقليل ولا تهويل. وفاتحة لدراما تاريخية تخوض بشكل أكبر في حياة الناس العادية، وحيْرَتِهم بين السياسة كفعل زماني متغير، والعقيدة كنقاش جدلي ثابت.
يحتاج المجتمع إلى تنوع المنطق، وتنوع الشخصيات، وتنوع الخيارات، كما يحتاج الجسم الرياضي إلى تنويع تمرينات العضلات، والدخول إليها من أكثر من باب. يستفيد السباح من خبرة رافعي الأثقال، وتستفيد لاعبة الكرة من خبرة لاعبة الوثب الطويل. الإنسان ابتكر «الحواديت» لكي ينقل تمرينات الخَيَال إلى نسله، ويشاركهم تجارب المحتمل والممكن. بها وضعهم في اختبار الشجاعة وإن لم يواجهوه، وفي اختبار الخوف، والخيانة، والانخداع، ومنحهم الاستعداد النفسي لمنعطفات الحياة.
