هناك ما يشبه الإجماع بين المشاهدين والنقاد على أن مسلسل «خيوط المعازيب» حقق نجاحاً استثنائياً وتصدّر المشهد الدرامي في رمضان، بل هناك من يرى أن هذا المسلسل يشق طريقه ليصبح واحداً من أفضل الأعمال الفنية السعودية على الإطلاق.
البعض يعزو نجاح المسلسل للنصّ المحكم، الذي اعتمد على حكاية ذات إيقاع تاريخي وثقافي واجتماعي، كما حظي النصّ بورشة عمل طبخته بعناية، وزينته باللغة التعبيرية ذات الدلالات العميقة، وهناك من يرى أن المسلسل نجح لأنه قدّم قصة تاريخية ببساطة وعفوية ودون تكّلف، اعتمد على وجوه معظمها يقف أمام الكاميرا لأول مرة.
الحقيقة أن نجاح المسلسل يعود في جزء كبير منه إلى أنه يمثل صورة من صور الناس في منطقة غنية جداً بالحكاية الاجتماعية. التعبير الثقافي للأعمال الدرامية يكون حاضراً متى ما وجد الناس صورتهم في تلك الأعمال، كأنهم يقرأون صفحات من مذكرات آبائهم، أو يستمعون إلى حكايا أجداهم. لا يتعلق الأمر بـ«النستولوجيا» والحنين إلى الماضي، كثيرون يعشقون مشاهدة البيوت الطينية لكن لا أحد يريد العودة للسكن فيها، أما القصة الاجتماعية فهي شكل مختلف، هي تفتح سيرة لم نشهدها غالباً، لكن أثرها ما زال حاضراً.
معلوم أن القصة التاريخية سمة لازمة للدراما الرمضانية منذ تعرّف الناس في منطقتنا على الشاشة الفضية، لكنها دراما نسقية، مسكونة بالأمجاد، تتقصى حياة النخبة من الحكام والمحاربين والقادة الدينيين، وفي الطريق تمّر بالناس ليسدوا فراغات المشهد ليس إلا، الناس هم «الكومبارس» الذين يتحركون في الأسواق، ويموتون في المعارك، ويلوحون للقادة، ليمنحوا الحياة لتلك المسلسلات الطويلة المملة، لكن مسلسل «خيوط المعازيب» مختلف تماماً، هو ببساطة يقدم سيرة تاريخية للمجتمع، أبطاله هم الناس العاديون، في حقبة زمنية محددة، ووسط بيئة مكانية محددة؛ أما الزمان فكان الفترة الصعبة من تاريخ الجزيرة العربية، أو الخليج، والسعودية تحديداً، حقبة ما قبل النفط، حيث السكان الذين يعيشون الضنك والعناء، وحيث الحياة ممهورة بالمعاناة والألم، ومع ذلك فإن هؤلاء الناس لديهم القدرة على إنتاج ثقافتهم وفلكلورهم المحلي وصناعة الفرح، بل إنهم قدموا صناعة حرفية باذخة الثراء «البشت».
ذلك الزمان كان خلاله الفلاحون هناك، والصيادون في مكان آخر، يرزحون تحت رحمة ما يمكن أن يصطلح عليه بـ«الإقطاع» وهم «المعازيب» أو «النوخذة» أو أصحاب رؤوس الأموال الذين كان بعضهم يتعامل مع الناس بما يشبه نظام «السُخرة»، ويستغل حاجاتهم ليستولي على أملاكهم من مزارع وبيوت نظير ديون وفوائد لا قبل لهم بردها.
أما المكان فهو الأحساء، وهي قصة أخرى، فعادة ما تفضل الأعمال التلفزيونية المركز، أو العاصمة، القليل النادر من يغامر بإنتاج عمل تكون واحدة من مناطق الأطراف مسرحاً له، الناس اعتادت على الثقافة والقصة واللهجة والفلكلور والتراث واللباس والطعام وطريقة الحياة التي يشكلها المركز، تبقى الأطراف هامشية في حضورها عبر الشاشة. وعبقرية هذا المسلسل أن أعطى الثقة لهذا المكان (الأحساء) بما تمثل من تقاليد وعادات وتراث ثقافي وفكري متنوع، لكي يظهر الناس العاديين ببساطتهم وعفويتهم وبأسلوب حياتهم، وليكشفوا جوانب متعددة من سيرتهم الاجتماعية، طبيعتهم، معاناتهم، إبداع بعضهم وجنوح آخرين، حتى اللهجة كانت ممتعة ومألوفة.
نجاح هذا العمل يدفعنا لتذكر مؤسسات الإنتاج لكي تفتح عيون الكاميرا على مشهد سعودي حافل وغني وثري جداً بالتنوع الثقافي والاجتماعي، فكل منطقة سعودية لديها مخزون كبير من التراث الاجتماعي ولديها حكايات تنتظر من يكتبها ويصوغها ويحولها إلى أعمال درامية.
من بين تلك النماذج التي طالما دعونا للالتفات لها، وإنتاجها درامياً فترة السنوات الصعبة التي مرّت على الخليج، خصوصاً ما بين الحربين العالميتين: سنوات عرفت باسم المرض؛ كسنة الجدري والطاعون والكوليرا، وسنوات باسم الجوع، كسنة المجاعة والبطاقة وغيرها... وسنة الكارثة الرهيبة التي عرفت بـ«سنة الطبعة».
في عام 1923م (1343هـ)، وخلال موسم الغوص، حيث كانت مئات القوارب والسفن التابعة لسكان الخليج إبان موسم الغوص واستخراج اللؤلؤ، هبت عاصفة مدارية شديدة في الخليج والمحيط الهندي تسببت في غرق مئات المراكب وهلك أصحابها، وقد أعقبت «سنة الطبعة» سنة أخرى أشدّ إيلاماً، هي «سنة المجاعة».
كلما اقتربت الكاميرا من الناس وجدت لديهم مخزوناً من الحكايات التي تستحق أن تُروى.