د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

كل شيء من أجل النصر

استمع إلى المقالة

اقتربت الحرب الروسية - الأوكرانية من إكمال عامها الثاني، حاولت الدول الغربية خلال هذين العامين فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، بهدف إيقاف تمويل «آلة الحرب» الروسية، فجمّدت أكثر من 300 مليار دولار من الأصول الروسية، وعزلت جزءاً كبيراً من القطاع المصرفي الروسي عن «نظام الدفع الدولي بين البنوك (سويفت)»، وحجرت على أصول الأثرياء الروس للضغط على الرئيس الروسي، ونادت بسحب الاستثمارات الغربية من روسيا. نتائج هذه الإجراءات كانت مخيبة لآمال الغرب، وكانت مفاجئة حتى للروس أنفسهم.

«لقد هزم الاقتصاد الروسي العقوبات الغربية»، هذه كلمات الرئيس بوتين يوم الجمعة الماضية، وهي كلمات لا مبالغة فيها؛ فقد أظهر الاقتصاد الروسي مرونة كبيرة في التعامل مع الأحداث، العامين الماضيين، وكان أداؤه أفضل بكثير مما توقعه الاقتصاديون؛ فقد عدَل «صندوق النقد الدولي»، الأسبوع الماضي، عن توقعاته لنمو الناتج المحلي الروسي، ليرفعها إلى 2.6 في المائة مقارنةً بـ1.1 في المائة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتُعدّ هذه الزيادة الأكبر في تحديثات توقعات الصندوق الاقتصاد. وفاخَر الرئيس الروسي بأن روسيا نمت بشكل أسرع من جميع اقتصادات «مجموعة السبع»، العام الماضي، ووصل نمو الناتج القومي الروسي، العام الماضي، إلى 3 في المائة، وكانت الولايات المتحدة الأقرب له بـ2.5 في المائة، بينما تذيّلت ألمانيا قائمة الدول السبع بانكماش ناتجها القومي.

وفي وقت الحرب، كان الاقتصاديون أكثر فائدة لبوتين من الجنرالات؛ فقد ساهمت الكتلة الاقتصادية الروسية في إنقاذ الاقتصاد الروسي بقيادة وزير المالية أنطون سيلوانوف، وإلفيرا نابيولينا محافظ «البنك المركزي» التي وُصفت بأنها جنرال لم يخذل بوتين في الحرب والسلم. واستهدفت الكتلة الاقتصادية الروسية التضخم، ودعمت النظام المصرفي في البلاد، وسعت إلى بناء احتياطيات من العملات الأجنبية، وكبحت جماح الإنفاق الإضافي. وكانت نتيجة هذه السياسات زيادة مرونة الاقتصاد الروسي الذي راهن بعض الاقتصاديين على انهياره بعد تطبيق العقوبات الغربية.

وأدى الإنفاق الحكومي الدور الرئيسي في تجنّب ركود الاقتصاد الروسي، فوجهت الحكومة الروسية ميزانيتها تجاه الإنفاق العسكري، مخصصةً ثُلث ميزانيتها لهذا القطاع، وضاعفت الإنفاق عليه 3 مرات مقارنة بعام 2021. وعند الإعلان عن ميزانية الإنفاق العسكري الضخمة، استخدم وزير المالية سيلوانوف شعار «كل شيء من أجل الجبهة... كل شيء من أجل النصر»، وهو شعار سوفياتي من الحرب العالمية الثانية. ونتيجة لهذا الالتزام في الإنفاق، فقد وظف هذا القطاع أكثر من نصف مليون روسي، وأنعش القطاع الصناعي الروسي، وحوّر العديد من الصناعات المحلية نحو التصنيع العسكري، لا سيما مع ضمان الحكومة شراء الأسلحة من المنتجين، وقال بوتين، في كلمة له أمام منتجي الأسلحة، إن وزارة الدفاع تدفع للموردين 80 في المائة من التكاليف مقدماً!

ولم يقف دعم الحكومة على الإنتاج العسكري، فقد دعم الإنفاق الحكومي القطاع المصرفي كذلك؛ فمع محاولة الحكومة السيطرة على التضخم، رفع «البنك المركزي» الفائدة إلى 16 في المائة، ولكن الحكومة كذلك أطلقت برامج للقروض العقارية للشباب، بفوائد مدعومة تراوحت بين 6 و8 في المائة، وتكفلت الحكومة بتغطية الفارق بين النسبة العامة والمدعومة. ونتيجة لذلك، أعلنت البنوك الروسية عن أرباح قياسية، العام الماضي، وتعدت أرباح هذه البنوك 37 مليار دولار، وهو رقم فاجأ حتى «البنك المركزي الروسي» الذي قدّر مسبقاً أن الأرباح لن تتجاوز 11 مليار دولار. وارتفعت القروض العقارية بنسبة 34 في المائة شكلت القروض العقارية المدعومة أكثر من نصفها، كما لعبت طفرة تمويل الأصول التي تبيعها الشركات الغربية دوراً كبيراً في هذه الأرباح.

هذه الإجراءات حتى الآن جاءت بنتائج إيجابية، ولكن ذلك لا يعني أنها خالية من العيوب؛ فزيادة الدعم الحكومي للقطاع العقاري وقود لزيادة أسعار العقار، والإسراف في تحويل الصناعة نحو الإنتاج العسكري خطير في حال انتهت الحرب، بل قد يقود إلى كارثة حال انتهاء الحرب بتوقف هذه المصانع عن العمل وخروج غالبية العاملين فيها من سوق العمل. وحتى في حال استمرار الحرب، فإن هذه الصناعات أصبحت مستنزِفة للقوة العاملة الروسية، حتى أصبحت بعض القطاعات تعاني نقصاً في العمال. ويعني ذلك كله أن أمام الكتلة الاقتصادية تحدياً للتعامل مع هذه الأزمات المتوقعة، وهو بكل الأحوال ليس تحدياً أكبر من الحرب نفسها!

إن لنتائج الاقتصاد الروسي دلالات عديدة؛ أولها أن التزام روسيا تجاه الحرب أكبر بكثير من مثيله الغربي؛ فبينما يتناقش الغرب تجاه الدعم المالي المقدَّم لأوكرانيا، تسخّر روسيا جميع إمكانات الدولة تجاه هذه الحرب. ثانيها أن روسيا تمكّنت بالفعل من تجاوز العقوبات الغربية، بل واستخدمتها لمصلحتها جاعلةً من الحرب وسيلة لدعم صناعاتها المحلية، وحوّرت نموذجها الاقتصادي بالكامل لخدمة هذه الحرب. ثالثها أن هذه النتائج أوضحت استثمار الشباب الروس في بلدهم؛ فبعكس الدعاية الغربية، كان لجيل الشباب دور أساسي في انتعاش القطاع المصرفي من خلال شراء العقارات للاستفادة من الدعم الحكومي، وفي ذلك إشارة جليّة لإيمانهم باقتصاد بلادهم.