بحلول نهاية عام 2022، كان 108 ملايين شخص من سكان العالم قد اضطروا للنزوح قسراً، سواء داخل بلدانهم أو خارجها، جرَّاء عمليات اضطهاد وصراع وعنف وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، أو وقوع أحداث مخلة بالنظام العام أدت إلى عدم قدرتهم على البقاء في أماكنهم. يعني هذا أن شخصاً واحداً على الأقل من بين كل 74 شخصاً من سكان الأرض، اضطر إلى النزوح قسراً تحت ضغوط لم يكن بإمكانه تحملها، أو هرباً بحياته إلى ملاذ آمن أو أقل خطورة. وقد حدث هذا في عام واحد هو 2022، بزيادة قُدرت بـ19 مليون شخص، مقارنة مع العام السابق عليه 2021.
وأما العام الماضي 2023، فيبدو أنه شهد زيادة جديدة في أعداد النازحين قسراً واللاجئين حول العالم؛ لأن هذا العام الأخير حفل أيضاً باضطرابات وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بشكل أضحى معه العالم أقل أمناً، وأكثر قابلية لتعميق حالات النزوح واللجوء.
قضية اللاجئين والنازحين قضية عالمية ذات طابع سياسي واجتماعي واقتصادي وإنساني مُعقد، وبسبب ذلك التعقيد، فإن مقاربتها إعلامياً تبدو أيضاً عملية صعبة، ورغم أن المجتمع الدولي -عبر منظماته الرسمية- يُعول كثيراً على تلك التغطية في تخفيف الأزمة ومعالجة آثارها، فإن المواكبة الإعلامية كثيراً ما تخفق في ذلك؛ بل وأحياناً ما تكون سبباً في تعميق مآسي هؤلاء اللاجئين والنازحين.
فمن الكونغو الديمقراطية، إلى إثيوبيا، مروراً بالسودان، وليبيا، وسوريا، واليمن، وصولاً إلى أوكرانيا، لا تتوقف ماكينة ضخ اللاجئين والنازحين قسراً عن عملها، وبموازاة ذلك تظهر المواكبات الإعلامية عبر الوسيطين الإعلاميين الرئيسين («السوشيال ميديا» و«الإعلام التقليدي»)، فتنجح أحياناً في إدراك المعايير المرجوة لمقاربة مثل تلك القضية، أو تخفق كثيراً، وتساهم في تأزيمها.
وفي العالم العربي، يشير عدد من الدراسات المتخصصة التي أُجريت لتحليل المواكبة الإعلامية لقضايا اللاجئين والنازحين إلى خلل أولي خطير، يظهر في زيادة الاهتمام بتلك القضية عبر منصات «التواصل الاجتماعي» مقارنة بوسائل الإعلام الجماهيرية. وأما منبع الخلل في ذلك فيرجع إلى أن ذلك الاهتمام «السوشيالي» لا ينطوي على المعايير الواجب اتباعها في التصدي لمقاربة مثل تلك القضية الخطيرة والحساسة، ولا يخضع إلى الحد الأدنى الواجب من المساءلة.
لقد هيمنت «السوشيال ميديا» على القطاع الأكبر من التغطيات والمواكبات الإعلامية لقضايا النزوح واللجوء، مقارنة بالإعلام «التقليدي»، وفي تلك الهيمنة ظهرت قابلية كبيرة للتوظيف السياسي، وإشاعة الكراهية، واصطناع الأخبار، والفبركة؛ بل والتحريض على العنف.
لم يكن تناول وسائط «التواصل الاجتماعي» لتلك القضية مستنداً إلى تعريف واضح للمصطلحات المرتبطة بعمليات اللجوء أو النزوح، كما أنه حفل بأرقام ومعلومات مُضللة؛ بل وشهد استخدامات مسيئة للتقنيات الحديثة في فبركة الصور والفيديوهات، بهدف خلق رأي عام كاره أو رافض للاجئين والنازحين.
وفي كثير من الدراسات الميدانية التي استهدفت تحليل أداء منظومات الإعلام «التقليدي» في مواكبة قضايا النزوح واللجوء، ظهر أيضاً أن توظيفاً سياسياً مستمراً يهيمن على هذا الأداء؛ حيث تُستخدم قضايا النازحين واللاجئين في الصراعات السياسية داخل الدول أو مع دول أخرى.
أما العوار الأكبر الذي كشف عنه معظم تلك الدراسات، فقد تمثل في غياب ملحوظ لأصوات اللاجئين والنازحين في التقارير والمعالجات الميدانية لقضايا اللجوء والنزوح، مقارنة بأصوات الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المختلفين، وهو الأمر الذي يحدث باطراد في كلا الوسيطين: «السوشيالي» و«التقليدي».
وفي ملمح آخر لا يقل أهمية، أشارت تلك الدراسات كذلك إلى غلبة الاعتماد على مصادر أجنبية في معالجة قضايا اللجوء والنزوح؛ خصوصاً في الدول العربية، رغم أن قطاعاً كبيراً من هؤلاء النازحين واللاجئين ينتمي إلى تلك الدول، وهو الأمر الذي يعود إلى عدم الاهتمام البادي بتلك القضية، أو نقص الموارد البشرية والمادية اللازمة للتصدي لمعالجتها. كذلك اتضح أيضاً أن المواكبات الإعلامية المختلفة لتلك القضية في العالم العربي كثيراً ما تركز على المنظورين الأمني والسياسي، بينما تُغيِّب المنظورين الإنساني والخدمي، وعندما تتصدى لإيضاح القضايا من هذين المنظورين الأخيرين، فإنها تخضعهما أيضاً للاعتبارات السياسية، وتسعى إلى توظيفهما لتغليب وجهة نظر محددة.
لقد أسرف الإعلام العربي، بشقيه: «السوشيالي» و«التقليدي»، في التوظيف السياسي لقضية اللاجئين والنازحين، وانخرطت جماعات من المتفاعلين عبر منصات «التواصل الاجتماعي» في إشاعة الأكاذيب، والتحريض، وبث الكراهية إزاءهم، بينما لم ينهض الإعلام المؤسسي بالأدوار الواجبة في مواكبة تلك القضية، عبر التزام المعايير المهنية والأخلاقية. وقد حدث كل ذلك بينما تغيب أصوات اللاجئين والنازحين، وتُفسَح الساحات لأصوات أخرى.