قبل أيام، سرت شائعة بوفاة الكاتب السعودي تركي الحمد، وكان للخبر وقع الصدمة على كثيرين من محبي تركي الحمد، حتى أولئك الذين فرقت بينه وبينهم الأفكار والمواقف، انتابهم الوجع من هول الخبر... فلا زال السواد الأعظم من المحبين والمختلفين مع تركي الحمد يشعرون أنه واحد منهم، نبت من طينتهم، وعبّر عن أحوالهم بكل تناقضاتها وتشابكاتها.
نجا تركي الحمد من موت متوهم، ظلّ منذ سنين يطارده حصاداً لأفكاره، لكنه نجى، وإن أثخن بالجراح، وأمكن لأبي طارق أن يختبر مكانته في نفوس محبيه وناقديه عبر سيل المشاعر التي فاضت ألماً ثم فرحاً بعد ذلك الخبر.
تشبه حياة تركي الحمد إلى حدٍ كبير شخصية هشام العابر، بطل ثلاثيته: «أطياف الأزقة المهجورة؛ العدامة، الشميسي، الكراديب»؛ الذي عاش في حيّ «العدامة» في الدمام شرق السعودية، وفيها تشكل وعيه السياسي الأوّلي، ثم انتقل إلى الرياض وسكن حيّ «الشميسي»، وانتهى به المطاف في سجن «الكراديب» في جدة.
خاض هشام في الرواية، كما خاض تركي نفسه العمل السياسي عبر تنظيم يساري، حيث اعتنق أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ كان طالباً في المرحلة الثانوية، وحاول مع رفاقه تأسيس فرع لهذه التنظيم، ولهذا السبب تمّ توقيف تركي الحمد حين كان طالباً في جامعة الملك سعود، وأودع السجن لمدة سنة ونصف سنة تقريباً، وكان لسفره للولايات المتحدة لإكمال دراساته بعد خروجه من السجن أثر كبير على أفكاره التي شهدت انقلاباً متدرجاً، تخفف أبو طارق رويداً رويداً من الالتزام بالقومية العربية، لكنه في مرحلة ما بعد غزو الكويت تنكب لتلك الأفكار القديمة، ومعها أيضاً أصبح هجومياً بالنسبة لنقده للحالة الدينية، وخاصة في جانبها المتشدد، لكنه لم يوفر أيضاً التراث الديني برمته... في تلك المرحلة كتب «دراسات آيديولوجية في الحالة العربية» 1992، و«الثقافة العربية أمام تحديات التغيير» 1993.
كما برز لخصومه ممتشقاً «ثلاثيته» الروائية، التي لم ترضِ النقاد وأثارت سخط التيارات الدينية. النقاد قالوا عنها إنها كسرت القيود الفنية، وإنها ليست سوى تجارب لا ترقى للأعمال الإبداعية، وإن كانت أيقظت السكون الروائي في عموم البلاد، وحفّزت مئات على الكتابة، (هنا قال البعض أيضاً إنها وفّرت لكثير فن استسهال الكتابة الروائية)، لكن الإسلاميين تفحصوا الرواية أكثر من النقاد، قرأوا الثلاثية سطراً سطراً، وفككوا ألغاز المعاني، وغاصوا في النيات، وقرأوا ما بين السطور، وكتبوا المقالات، وحرضوا المفتين، بل إن بعض طلبة العلم استبق شيوخه في إصدار فتاوى التكفير بحق تركي الحمد، فمنذ منتصف التسعينات اعتبر الحمد «مهرطقاً» تلاحقه فتاوى التجديف، ويُخشى عليه أن يناله انتقام أحد الموتورين من كتاباته أو بفعل التحريض الأعمى آنذاك.
الغريب أن الحمد لم يستسلم، اعتصم بتيار عريض من أصدقائه الذين كانوا يعدونه «تنويرياً»، مقابل «الظلاميين» الذين يستهدفونه في المواقع الإلكترونية، وكانت كتاباته جذابة، خاصة ما يتعلق بنقد الظواهر المسببة للتخلف، ونقد التفكير السياسي العربي، خاصة قضايا الإصلاح والحريات ومفهوم الصراع مع الغرب.
لم تكن أفكار تركي الحمد تسير على وتيرة واحدة، فقد كانت تتغير، ويمكن للمتلقي أن يقرأ التغيير نحو الأعلى أو الأسفل، نحو الأمام أو الخلف، كما يشاء، أما بالنسبة إليه فكان يُخضع أفكاره في كل مرحلة إلى حالات العصف الفكري، ولتنتج الريح بعدها ما تشاء، ولذلك راكم خصومات واسعة من أصدقاء كانوا يعدون أنفسهم صدى لأفكاره القديمة.
في روايته «العدامة»، يقول تركي الحمد على لسان هشام العابر: «كنتُ أعتقد أن النضال هو من أجل مبادئ وغايات سامية، ولكنني أكتشف يوماً بعد يوم أننا نناضل من أجل أن يأتي أشخاص مكان آخرين. فما الفرق؟». لم يتوقف تركي الحمد عن النضال... في كل مرحلة كان للنضال معنًى، ولكنه اليوم يناضل لكي يبقى!