الرأي الآخر هو الذي أخبرنا أن برج بيزا الإيطالي كان مائلاً. ولأن ذلك الرأي لم يؤخذ على محمل الجد، ظلت تلك الأيقونة مائلة منذ تشييدها عام 1173، فاضطرت السلطات إلى اتخاذ تدابير احترازية عام 1990 فنجحت في تصحيح الميلان من 10 درجات إلى نحو 4 درجات عبر إزالة التربة من تحت الجانب المرتفع، واستخدام أثقال خاصة، ليبقى البرج شامخاً حتى عصرنا الراهن.
الرأي الآخر، هو الذي يحمل إليك نتائج مخرجات التعليم المتدنية في الاختبارات الوطنية والدولية، لكنك تختار أن تصب جام غضبك على أسباب بعيدة عن أصل المشكلة. الرأي الآخر نفسه الذي ينقله لك الاقتصادي الحصيف ليخبرك أن سياسة الإنفاق الريعية غير المستدامة سوف تبدد خزائن الدولة، وأن تجاهل تعليمات البنك المركزي تنذر بعواقب اقتصادية وخيمة.
عندما باعت روسيا ألاسكا لأميركا عام 1867 بمبلغ زهيد (لم يتجاوز 7.2 مليون دولار) عُدَّ الأمر خطأً استراتيجياً بعد اكتشاف موارد طبيعية فيها. وحينما غزا القائد الفرنسي نابليون، روسيا، عام 1812، لم يكترث لنداءات من حوله بعدم استعداده للشتاء القارس، مما أدى إلى خسائر فادحة في ربوع أبرد بلد أوروبي.
من الآراء ما لا تظهر رجاحتها إلا بعد ردح من الزمن. وما حادثة انفجار تشيرنوبل عام 1986 إلا إحدى أسوأ كوارث الطاقة النووية في التاريخ بسبب مزيج من أخطاء التصميم وسوء إدارة المخاطر لم يولها متخذ القرار الاهتمام الكافي. أحياناً لا يفصلك عن استيعاب خطر «تطنيش» الرأي الآخر سوى ثوانٍ معدودة. فقبل إطلاق المكوك الفضائي «تشالنجر»، في العام نفسه، لم يعبأ أصحاب القرار بشأن التحذيرات المتعلقة بسلامة مكوناته فانفجر بُعَيْدَ انطلاقه بنحو 73 ثانية!
وربما كانت «المكارثية» أيقونة الخشية من الرأي الآخر. وهي حملة «إقصائية» قادها عضو الكونغرس الأميركي الشاب المتحمس جوزيف مكارثي ضد الشيوعية في الولايات المتحدة خلال الخمسينات، تميزت باتهامات لا أساس لها تجاه «معتنقي الأفكار الشيوعية» في مؤسسات الدولة، ثم انتهت بانتهاكات للحقوق المدنية.
معضلة الرأي الآخر تكبر عندما تقف وراءها أجندة خفية لزعزعة الأمن والنظام العام. وهذا لا يعني وأد كل رأي مغاير على غرار الطريقة المكارثية في أميركا. لكن الأمر يتطلب منتهى الحذر، حتى لا تستفحل المشكلة ويركب الموجة كل إقصائي.
خطورة وأد وإقصاء الآخرين أنهما يخلقان حالة من الهلع أو الخشية من قول كلمة حق تطور تلك المؤسسة، أو ذاك المسؤول لتتقدم البلد وأفرادها ومؤسساتها. فالرأي لا يعدو كونه إشارة إلى خلل ما أو إشادة تستحق التقدير.
رأي الفرد كالناظر إلى الهرم العملاق، لا يمكنه رؤية جميع الاتجاهات (الآراء)، إذا كان مصراً على النظر إليه من زاوية واحدة. ولذلك كان من الحكمة سماع جميع الآراء أو الاتجاهات بتجرد. فقد تحمل لنا حججاً وجيهة... تأتينا على طبق من ذهب.