اللاعب الثالث في هذه اللعبة الصفرية هي الكتلة الثقافية والحقوقية الغربية، التي تضم بعض أعضاء منظومة المجتمع الدولي. فالأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وممثلو مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، وقسم لا يستهان به من الرأي العام الغربي والنخب الثقافية، استنكروا بشدة العدوان الصهيوني، مسوغين ردود الفعل الفلسطينية في إطار حالة الدفاع عن النفس حيال ديمومة الحصار والعنف وخطاب الكراهية والسياسات العنصرية لدولة إسرائيل. وأكدوا في هذا السياق بما لديهم من وثائق معتبرة أن الضفة الغربية التي لا تُدار بواسطة حركة «حماس» لم تعصم أهلها اتفاقيات السلام من عدوان وعنف المستوطنين ووحشية حكومة نتنياهو العنصرية. تجدر الإشارة إلى أن بعض المثقفين الغربيين، ومنظمة العفو الدولية «أمنستي»، و«هيومن رايتس وتش»، وتنظيمات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، يدرجون إسرائيل في قوائم دول الفصل العنصري. بيد أن هذا اللاعب يظل هشاً وضعيفاً، وسلطاته أدبية وأخلاقية، وبالتالي عاجز عن صناعة القرارات المؤثرة. فهو يستمد شرعيته من أدبيات القانون، واللسان، لا من ميدان السياسة، والسنان. وعلى الرغم من ارتكازه على شرعية الحق القانوني، إلا أن افتقاره لعنصر القوة المادية والسياسية جعله طرفاً غير فاعل ومؤثر في تقييد انفلات البربرية الصهيونية.
وهنا يبرز الدور السياسي للاعب الرابع، ممثلاً بالإدارة الأميركية، التي تمتلك القوة المادية الحقيقية في لجم هيجان وسعار المفترس الصهيوني. وهو الأمر الذي يؤكد عند وضع ترتيبات قواعد اللعبة الاستراتيجية على أهمية العامل السياسي الذي يتكئ على شرعية القوة، والإكراه، وأوراق الضغط، والسياسة الواقعية التي تهتم بما هو كائن فعلاً، بدلاً من مبادئ القانون الذي يستند على شرعية الحق، والعدالة، والمثل السامية، والسياسة المثالية التي ترتكز على ما يجب أن يكون عليه الواقع. فالعقل السياسي عند معظم القيادات الحاكمة في البيت الأبيض هو عقل براغماتي تفاوضي يؤمن بأن حل القضية الفلسطينية لا يكون إلا عن طريق السياسة الواقعية وعقد الصفقات والمساومات السياسية، انطلاقاً من منطق أن الصراع هو صراع حدود لا صراع وجود. وقد قطعت بعض الإدارات الأميركية شوطاً لا بأس به في حلحلة القضية الفلسطينية بمشاريع واتفاقيات السلام. إلا أن مواقف الحكومات الأميركية الأخيرة المتراخية مع خطاب وممارسات حكومة نتنياهو العنصرية كانت قد شجعت الأخير على الاستمرار في تهميش ملف السلام، ورفض قبول حل الدولتين، وتصفية القضية الفلسطينية، والعودة بالتالي لمنطق صراع الوجود. والأسوأ من ذلك إضفاء إدارة بايدن وبعض الدول الغربية بعض الشرعية على المجازر الجماعية المرتكبة بغزة، وبطريقة تتنافى مع المنظومة الغربية لقيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية التي تعتنقها الأطراف المكونة للاعب الثالث، التي أفضت إلى معارضة شعبية واسعة من قوى ومؤسسات المجتمع المدني، وبعض تنظيمات الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، والرأي العام الغربي، والنخب المثقفة، ومن داخل هذه المجتمعات الغربية نفسها.
وتاريخياً، لعبت الاستخبارات الأميركية دوراً بارزاً في نشوء وتمدد الحركات الإسلامية على حساب الحركات اليسارية في سياق الحرب الباردة والصراع مع الاتحاد السوفياتي، والرغبة الأميركية في احتواء الآيديولوجيا الشيوعية عبر العالم. فأسهمت، على سبيل المثال لا الحصر، بالانقلاب على حكومة مصدق اليسارية في إيران وإجهاض قيم الثورة الاشتراكية، التي صبت بالنهاية في مصلحة الخميني الذي تسلق على أكتاف الثورة اليسارية بدعم غربي. كما قوَّضت من دور حركات التحرير الفلسطينية اليسارية، التي انتهت بتعزيز فرص «حماس» والحركات الإسلامية الأخرى. وهي سياسات الاحتواء نفسها التي اتبعتها الحكومات الأميركية المتعاقبة ضد الحكومات والحركات اليسارية في بعض دول أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، ودعم الانقلابات العسكرية لمصلحة اليمين المحافظ في خضم صراع أمريكا مع الاتحاد السوفياتي. ولو توغلنا في التاريخ أبعد من ذلك، سنجد من المفارقات المثيرة للسخرية أن الإدارة الأميركية والحكومات الغربية هي من دعمت هتلر لمحاصرة ستالين وعقيدته الشيوعية، وفي سنوات لاحقة هي من دعمت الجهاد الأفغاني و«طالبان» و«القاعدة» وحركات المقاومة الإسلامية لمحاصرة الحركات اليسارية بهدف إسقاط الاتحاد السوفياتي وتحجيم المد الاشتراكي عبر العالم.
ومن هنا فإنَّ الإدارة الأميركية وبعض الحكومات الغربية تتحمل جزءاً لا يستهان به من المسؤولية التاريخية والأخلاقية من الأزمة الفلسطينية، إما بسبب دورها التاريخي المباشر في زرع دولة إسرائيل في جسد الأمة العربية، أو من خلال محاباتها للاعب الصهيوني اليميني المتطرف، أو بامتناعها عن ممارسة ضغوط جدية على حكومة إسرائيل لتنفيذ مشروع حل الدولتين، أو بسبب تضييق الخيارات والفرص المتاحة والبدائل الممكنة لظهور التيارات المعتدلة والأصوات العقلانية، أو رهانها على خيارات خاطئة وقوى سياسية يمينية غير عقلانية. وما يفوت بعض المؤيدين لحركات المقاومة الإسلامية هو أن هذا الانحياز الغربي لدولة إسرائيل يجري في ظل نظام عالمي أحادي القطب، وهو ما جعل هذه الحركات بدون غطاء دولي ودعم عسكري حقيقي وعلى مفترق طرق. فعلى النقيض من حركات المقاومة الفيتنامية والجزائرية واللاتينية وغيرها من حركات التحرر في الدول النامية التي كانت تقاتل من مواقع جيوسياسية اتسمت بتضاريس جبلية وعرة وطبيعة جغرافية في غاية التعقيد، واستفادت لوجستياً وعسكرياً واقتصادياً من هامش الصراع الأميركي السوفياتي أثناء الحرب الباردة، وتمكنت بالتالي من تحرير أوطانها، فإن واقع الخيارات المتاحة أمام دعم «حماس» وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية على الصعيد الدولي أصبح محدوداً وضئيلاً في ظل الهيمنة الأميركية على النظام الدولي، ناهيك عن الحتمية الجغرافية لتضاريس غزة الساحلية والمكشوفة أمام العدوان الخارجي.
وصفوة القول في ذلك هو أن خيارات وفرص السلام وحل الدولتين لن ترى النور في ضوء المعادلة الصفرية بين لاعبين دوغمائين يعتقدون أن الصراع هو صراع وجود لا صراع حدود، وفي ظل تراخي الإدارة الأميركية لحلحلة هذا الجمود والانغلاق السياسي. وهذا الطريق المسدود أصبح أكثر احتمالاً بعد تصفية رابين من المتطرفين الإسرائيليين، وتهميش الأصوات المعتدلة من داخل إسرائيل، وتعزيز قوة اليمين المتطرف الإسرائيلي بدلاً من ذلك، علاوة على تهميش حكومة عباس، وانقسام السلطة الفلسطينية، وانفراد «حماس» بالإدارة السياسية في غزة، وغياب احتمالات أي دور للاعب دولي عادل وجاد وفعال خارج نطاق المنظومة الأميركية والغربية. والحقيقة الحزينة والمؤلمة في كل ذلك أن التكلفة الإنسانية والخسارة الكبرى في هذا الصراع الآيديولوجي المحتدم سيكون ثمنها في النهاية مدفوعاً من دماء الأطفال وأشلاء الأبرياء، خصوصاً عند الطرف الأضعف عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً في هذه اللعبة الصفرية.
وأخيراً وليس آخراً، يَذكرُ ول ديورانت في كتابه «قصة الفلسفة» أنه عندما اجتمعت الأسود مع الأرانب لإدارة الغابة، طالبت الأرانب بأن يكون لها صوت مساوٍ للأسود في هذه الإدارة، فردت عليها الأسود «وأين مخالبك؟»، ومن هنا فإن ضمير الإنسان الحي عبر العالم سيبقى دائماً مع المقاومة التي تمتلك مخالب حادة ضد الاحتلال. ولكن ينبغي أن توظف تلك المخالب الحادة ضمن خطاب المقاومة العقلانية. وأقصد بالمقاومة العقلانية والمشروعة هنا حركات الممانعة السياسية التي لا تتسع الفجوة عندها بين أهدافها الاستراتيجية وخياراتها التفضيلية، وبين وسائلها ومحدداتها المقيدة بمصادر الشرعية السياسية، والموارد الاقتصادية، والقوة النوعية مادياً وتكنولوجياً، التي تستثني من مواجهتها الاستهداف المتعمد للمدنيين والأبرياء. والأخذ بعين الاعتبار أن اكتساب شرعية النظام العالمي الجديد والرأي العام الدولي المنحاز لمشروعية المطالب الفلسطينية يستوجب عقلنة وترشيد الخطاب السياسي للمقاومة، وإطلاق مفردات معتدلة ومستنيرة بعيداً عن الشعارات الحنجورية والبروباغندا الآيديولوجية الرنانة المعادية للعالم التي تؤكد على أن منطق الصراع هو صراع وجودي لا حدودي. وضمن هذا الإطار خَطت القيادة السياسية لحركة «حماس» خطوة استراتيجية ضرورية ومهمة إلى الأمام، وكأنها تقدم نسخة جديدة أكثر عقلانية لخطاب المقاومة، حيث أشار إسماعيل هنية في الأسابيع المنصرمة إلى أن الحركة لا تعارض قيام دولة فلسطينية على حدود 67، وهو ما يناقض منطق صراعها الوجودي، والمبادئ العقائدية لميثاقها. وبهذا المعنى السياسي فإن المقاومة أدركت أخيراً خطورة الاستمرارية في إنتاج الخطاب التقليدي نفسه، فرشّدت من مضامينها وقدمت للمجتمع الدولي خطاباً عقلانياً براغماتياً، يستمد معقوليته من حقائق السياسات الواقعية ومن ركائز المرجعية الإنسانية والتراث الأخلاقي والحقوقي المشترك للعالم، بعيداً عن التشنجات الآيديولوجية، والنعوت العقائدية الصلبة. وعلى الرغم من أن هذه العقلنة كانت متأخرة، ولربما في الوقت الضائع، إلا أن هذا النوع من الخطاب العقلاني والإنساني للمقاومة كان سيحظى بترحيب كبير وشعبية عالمية أوسع خارج حدود غزة، وكان سيكون أكثر قدرة على التعبئة السياسية الدولية، وأكثر استيعاباً للأجيال الجديدة التي ستكون مثقلة بروح الانتفاضة والثورة والرغبة بالانتقام بعدما شهدت بربرية ووحشية الكيان الصهيوني الذي دمر بيوتهم، وقضى على عوائلهم، وشتت شملهم، وهجرّ أحباءهم.
وعلى غرار عقلنة الخطاب السياسي، فإن استراتيجيات الخيار العقلاني للمقاومة تقتضي أيضاً أن تكون مقاومتها أقل تكلفة على حياة الأبرياء والمدنيين، وأن تنسجم وسائلها المحدودة مع استراتيجيات غاياتها بعيدة المدى. وإحدى أهم الاستراتيجيات بعيدة المدى للتمكن من الخصم لا تكون إلا باعتماد الوسائل والخيارات التي تشجع على الإعداد للمخالب الحادة، والقوة ورباط الخيل، ومراكمة مزيد من عناصر الشوكة والبأس من أجل التهيؤ للصراع من موقف قوة مادية حقيقية وأسلحة استراتيجية لا من مكانة ضعف وأوهام آيديولوجية وشعارات رنانة وتفكير بالتمني ومفرقعات نارية. فمؤسس الحركة الصهيونية الحديثة هرتزل كان قد خطط بشكل استراتيجي منذ عام 1897، أي لنصف قرن، من أجل إنشاء هذه الدولة العنصرية، موظفاً في سبيل ذلك وخلال هذه المدة الزمنية الطويلة كل الوسائل الممكنة لمراكمة كل أشكال عناصر القوة الناعمة والصلبة، والمخالب الحادة، والتحالفات الاستراتيجية، والتغلغل في مراكز صنع القرارات السياسية للدول الكبرى والقطاعات المالية والمصرفية عبر العالم، علاوة على توحيد الجبهات الداخلية نحو تحقيق هدف واحد مشترك.
وفي الختام، فإن التاريخ يعيد نفسه. ففي حرب يوليو (تموز) 2006 أسر «حزب الله» مجموعة من الجنود الإسرائيليين، وأفضى هذا التكتيك العسكري إلى دفع إسرائيل لتدمير البنية التحتية المدنية والمنشآت الصحية والكهربائية وقتل الأبرياء في بيروت ومختلف المناطق اللبنانية. وحينها صَرحَّ وزير الخارجية سعود الفيصل، بأن سلوك «حزب الله» كان «مغامرة غير محسوبة، لأن الخيار السليم لا يكون بقبول تدمير البنية التحتية التي لا يبحث عنها المواطن... وصحيح أن إسرائيل لم تستطع أن تهزم (حزب الله) لأنه ليس جيشاً عسكرياً رسمياً موجوداً في مكان، فهو يختبئ ويستعمل حرب العصابات، لكن البلد كُلهُ دُمرَّ من أوله إلى آخره... وأن عناصر (حزب الله) مسؤولة عن إنهاء الأزمة التي خلقها». ولم يمر وقت طويل حتى اعترف حسن نصر الله بأنه لو أدرك أن تكلفة الحرب كانت ستكون بهذا الثمن الدموي الكبير، لما أقدم على فعل ذلك. وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد الآن، وباللاعبين أنفسهم تقريباً، ولكن في سياق دولي أكثر تعقيداً وأقل إنسانيةً. فتأكيد القيادة السياسية لحركة «حماس»، وإن كان متأخراً، على قبولها بدولة فلسطينية على حدود 67 وتخليها عن منطق الصراع الوجودي الذي يتناقض مع بنود ميثاقها هو بمثابة اعتراف ضمني بالتكلفة الإنسانية والمادية الباهظة لهذه الأزمة. والخيار العقلاني من أجل بقاء الحركة واستمراريتها هو أن يقدم هذا اللاعب مزيداً من التنازلات على صعيد عقلنة الخطاب السياسي، والانفتاح على السلطة الشرعية، وعقلنة ممارساتها السياسية ضمن محيطها العربي والدولي. بيد أن ترشيد الخطاب والسلوك السياسي للمقاومة مشروط أيضاً بمواقف اللاعب الأول. وقد يكون ذلك إما بتغيير حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، أو إرغام قياداتها السياسية على قبول مشاريع السلام. والمفارقة أن كلا الأمرين مشروط أولاً وأخيراً بالإرادة السياسية للاعب الرابع ممثلة بالإدارة الأميركية. وسيبقى السؤال الإنساني الأعمق معلقاً بتقديم التنازلات من أحد الأطراف، أو اعتراف أحد اللاعبين المنخرطين في صراع اللعبة الصفرية بأن سلوكه لم يكن عقلانياً، وبأن تكلفة الحرب كانت أكبر بكثير من عوائدها المتوقعة. ولكن كم سيكون حينها الثمن المدفوع مقابل تقديم بعض التنازلات أو الاعتراف بهذه الخطيئة والذنب المرتكب في حق الإنسانية؟ وكل ما أخشاه أن تكون تلك التنازلات أو البوح بهذا الاعتراف في الوقت الضائع، وعندئذ ستبكي غزة الثكلى على اللبن المسكوب.