ينتظر اللبنانيون «معجزة» تأتي من مكان ما وتحمل لهم رئيساً لجمهوريتهم المتهالكة. في لقاءات مختلفة في بيروت مع سياسيين ومثقفين ومواطنين عاديين، لا تسمع سوى الاستفسار عمّا تخطط «الدول الكبرى» للبنان؛ ما رأي الأميركيين والفرنسيين والجيران العرب في هذه المعركة؟ وما هي خياراتهم في أزمة الرئاسة؟
وعندما يسمعون الجواب المنطقي أن العالم، عربياً كان أم غربياً، بات مصاباً بالضجر والاشمئزاز من السياسيين اللبنانيين ومن هذه المهزلة المتمادية التي اسمها أزمات لبنان، ولم يعد لديه علاج للمهزلة سوى دعوة اللبنانيين إلى تحمل شيء من المسؤولية عن مصير بلدهم، يستغرب السائل هذا الجواب، ويروح يحدثك عن اجتماعات وهمية في هذه العاصمة أو تلك، لتؤكد وجهة نظره أن الكرة الأرضية لا تدور إلا على وقع الحدث اللبناني.
حالة استسلام كاملة يمكن أن يلمسها الزائر عندما تطأ قدماه أرض لبنان. استسلام لموجة غلاء فاقعة تنافس فيها الأسعار أي مدينة من مدن العالم الصناعي. وهذا في بلد يضرب الفقر 80 في المائة من أبنائه. واستسلام لشلل كامل يشمل دوائر الدولة ومؤسساتها، التي يمتنع موظفوها عن التوجه إلى مكاتبهم في ظل ارتفاع أسعار المحروقات وتدهور القدرة الشرائية لرواتبهم. واستسلام لقرارات المصارف المتعسّفة في تعاملها مع المودعين الذين تحولوا إلى متسولين لأموالهم المحتجزة. واستسلام لمواقف وتصريحات سياسية تتكرر كل يوم مثل مواويل الزجل. وكلنا نعرف أن حالة الاستسلام لا تؤدي إلا إلى إطالة عمر الأزمات وإلى انعدام الحلول.
يزيد من عمق هذا الانحدار إلى الهاوية، التفكك المريع في العلاقات بين الطوائف، برغم المظاهر الخارجية الخادعة. تفكك لم تشهد علاقات الطوائف مثيلاً له، حتى خلال الحرب الأهلية. إذ تكفي جلسات خاصة مع منتمين إلى هذه الطائفة أو تلك لتسمع آراء تثير الدهشة والاشمئزاز، يدلون بها حيال آراء مواطنين من الطائفة الأخرى، يفترض أن يجمعهم بلد واحد. آراء وانتقادات تشمل الممارسات الدينية للطائفة الأخرى وطريقة عيشها وعاداتها الاجتماعية. غير أن هذه الآراء تختفي عندما يحصل لقاء عام وجامع بين منتمين إلى طوائف مختلفة، ما يعكس حالة التكاذب بين اللبنانيين الموصوفة بما يسمى «التعايش الوطني». يغذي هذا المناخ الطائفي سياسيون يستثمرونه لتعزيز مواقعهم في طوائفهم على حساب الانتماء الوطني الذي يفترض أن يكون مظلة تحمي جميع المواطنين.
يروي أمين معلوف في كتابه المتميز عن «الهويات القاتلة» أن عبارة «الديمقراطية» لا تكفي وحدها لقيام تعايش سلمي بين المواطنين. ويتحدث هذا اللبناني العريق الذي «لم يتخلّ عن وطنه بل وطنه هو الذي تخلى عنه»، أن النظام اللبناني قام على توزيع السلطات بين مختلف الطوائف، (بصورة مؤقتة حسب نص الدستور) على أمل تخفيف الصراعات في ما بينها والوصول بعد ذلك إلى انتماء مشترك لمجموعة وطنية واحدة. غير أن ما حصل أنه عندما وصل الأمر إلى توزيع «الكعكة» بين الطوائف، أخذت تشعر كل منها بالغبن لأنها حصلت على حصة أقل من الطائفة الأخرى. وهكذا بدلاً من أن يضعف شعور الانتماء إلى «القبيلة» (كما يسميها معلوف) ويزداد شعور الانتماء إلى الوطن، أخذ هذا الشعور بالانتماء الوطني يتلاشى إلى حد الاضمحلال، أو يكاد.
كثيرون من أمثال الرائع أمين معلوف يدركون هذه الحقيقة التي باتت سبباً للمرض المستعصي الذي يعاني منه لبنان. وكثيرون منهم غادروا إلى بلاد الله الواسعة، ليس بسبب نقص في حسّهم الوطني وفي عمق انتمائهم لبلدهم، بل بسبب شعور بالعجز في وجه هذه الحالة المستعصية، التي يسببها تواطؤ مواطنين عاجزين ومستسلمين مع سياسيين فاسدين، يقودون بلدهم على طريقة الميليشيات، التي قدموا منها إلى الحكم، أو على طريقة المافيات، التي تعلموها بالممارسة.
ويصح أن يطرح السؤال بهذه المناسبة؛ هل كان يمكن أن يتاح لمثقف وكاتب بارز مثل أمين معلوف أن يحقق ما حققه وأن يصل إلى الموقع الذي وصل إليه كروائي يحظى بالجوائز وكأمين دائم للأكاديمية الفرنسية، لو أنه بقي في لبنان، حيث بدأ حياته الصحافية؟ ويمكن أن يمتد السؤال ليشمل لبنانيين كثيرين أتاحت لهم الفرص أن يبرزوا ويتفوقوا في ميادين اختصاصهم خارج بلدهم، الذي أصبح طارداً للمواهب وحارماً الكفوئين من أبنائه من التقدم ومن فرص النجاح.
أعرف طبعاً أن كثيرين من اللبنانيين يلقون مسؤولية العجز الحالي والمتمادي عن حل الأزمة الرئاسية وإعادة العمل لمؤسسات الدولة على عاتق «حزب الله» وحلفائه. ولا مجال لإنكار العرقلة المتعمدة التي يعتمدها هذا الحزب في تشدده وإصراره على ما يسميه «الحوار» كغطاء لتجاوز العملية الدستورية التي يفترض أن تفضي إلى انتخاب رئيس، بعيداً عن التدخلات الخارجية. لكن الواقع أن «حزب الله» يفرض هيمنته على القرار السياسي من خلال هيمنته على «بيئته» الشيعية، التي يمنحه قطاع واسع منها الدعم و«الحق» في تحدي المكونات الأخرى. وهذا يعيدنا إلى النقطة الأساس، التي تتعلق بالخلل في العلاقات بين «القبائل» اللبنانية، الذي ينجم عنه انهيار الانتماء الوطني، وبالتالي الاستسلام للإرادات الخارجية وانتظار الفرج من أي حل قادم عبر الحدود.