سمير التقي
TT

نمشي في نومنا نحو الهاوية النووية!

استمع إلى المقالة

أوضح مناخ الحرب الأوكرانية أن نظام الأمن العالمي الراهن في نزعه الأخير. وفي حين لا تبدل القنابل النووية التكتيكية وقائع المواجهة الميدانية بين قوات مدرعة على جبهة تصل لأكثر من ألف كيلومتر، يستبعد الخبراء أن يُقدم الرئيس بوتين على أي مغامرة نووية؛ لكنهم يتحسبون لهذا الاحتمال بجد.

منذ منتصف القرن الماضي على الأقل، تخسر الدول النووية الكبرى حروبها الصغيرة، ليبقى السؤال الأهم في الفوضى الدولية الراهنة: متى سيدفع الخوف أو العنجهية العقائدية، زعيماً ما، للضغط على الزر النووي؟ إذ لا يكمن خطر الانفلات النووي الوشيك في أوكرانيا وحدها؛ بل في حقيقة تداعي منظومة الأمن بأسرها.

يثبت التاريخ أن خصلة الحكمة الجمعية ليست بالأصيلة بين البشر؛ بل لا تتجاوز ذاكرتهم الجمعية أحياناً ذاكرة السمك. فلقد كانت الحرب الباردة ظرفاً استثنائياً للإدارة السلمية للعالم؛ لكن هذا السلام نجم عن عوامل ظرفية في مناخ استثنائي لا مثيل له في تاريخ البشر.

قبيل هيروشيما بشهور، سمحت اتفاقات يالطا بتقاسم خريطة العالم. واحتفظ كل منتصر في الحرب بمجاله الاستراتيجي، محصناً من أي تبديل. وتُرك، بالمقابل، كثير من الصراعات في الأقاليم الطرفية، بما فيها الشرق الأوسط، لتشتعل كساحات اختبار لموازين القوى.

في حينه، بدا أن عقلانية الردع المتبادل وتقاسم العالم أمر مستتب، بخاصة بعد اختبار أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينات. أما تلك الدول التي وقعت في الدائرة المباشرة لهيمنة أحد القطبين، فلم يسمح لها بالإفلات مهما كانت التكاليف.

إذ لم يسمح للديمقراطية أن تزدهر في الشرق، ولا للاشتراكية أن تتفشى في الغرب. وفشلت مؤقتاً مطرقة التاريخ في إسقاط يالطا. فرغم الثورة الديمقراطية في أوكرانيا ودول البلطيق نهاية الأربعينات، والهنغارية في الخمسينات، وثورة دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا أو بولونيا من جهة، ورغم ثورة اليسار الفرنسي في الستينات، أو صعود اليسار الراديكالي في بريطانيا، أو الثورات الاشتراكية في أميركا الجنوبية والسودان وعُمان، إلخ... لم يتح لأي منها الإفلات من مدارات يالطا.

ومع ازدياد الثقة بين النخب السياسية والعسكرية على طرفي الستار الحديدي، تأسس نظام معقد من «الخطوط الساخنة» والقيود، وحظر التطوير التقني على الصواريخ والصواريخ المضادة وأنظمة الردع المتقدمة. وتم اعتبار كل من بريطانيا وفرنسا والصين ملتزمة بهذه الاتفاقات.

لكن السمة الأبدية للتاريخ هي التحول وليس الجمود، وسمة العلاقات الدولية الخداع وليس الأمانة. وهكذا مررت فرنسا ديغول الماء الثقيل للسلاح النووي لإسرائيل، ومررت الصين تقنيات السلاح النووي لباكستان، وكذا فعلت روسيا بتسهيل التقنية النووية للهند، ثم مررت التقنية النووية لكوريا الشمالية. وبعدها، بالطبع، تولت الشركات «كارل لي» الصينية، توريد معدات المفاعلات النووية والصواريخ لإيران.

في هذه اللعبة، كانت كلمة السر هي الإنكار. وكان الدافع هو التغلب على التفوق وزعزعة الخصوم الاستراتيجيين.

أصبحت لدينا بعد عقود طبقات عدة من الدول النووية. بعضها تصرح وتضبط السلاح، وأخرى تملكه ولا تصرح، وأخرى تسرع الخطى لتطويره خارج النظام الدولي، وأخرى تملكه معرفياً وتقنياً؛ لكنها تتوافق مع القوى الدولية على إبقائه «على الرف» والإحجام عن إنتاجه، مثل: الأرجنتين، والبرازيل، وألمانيا، وكوريا الجنوبية، وغيرها.

لكن السبب الجوهري للخطورة القصوى للوضع النووي الراهن، لا يكمن في هذه الخروق فحسب؛ بل في انهيار مقومات منظومة الأمن والسلام الدوليين، لتخلي مكانها لفوضى يستحيل التنبؤ بنتائجها.

إبان الحرب الباردة كان لدينا:

أولاً: ترف نظام قطبي، يعرف فيه كل قطب عنوان الآخر، ومنظومة شفافة لتبادل المعلومات تضبطها مؤسسات حاكمة مستقرة وحكيمة. وبعد انهيار نظام القطبين تداعت المقومات الظرفية، لتبرز دول ثورية عقائدية أو انتقامية، تعمل خارج القانون الدولي، وتخفي مشروعاتها النووية. خطورة الأنظمة العقائدية أنه يمكن تفسير أي تحرك سياسي أو عسكري منها على أنه استعداد أو تذخير لحرب نووية وشيكة.

ثانياً: استند الاستقرار النووي السابق على توافقات على حدود التصعيد بين القطبين، امتدت من يالطا إلى ضبط بيع الأسلحة والصراع في الشرق الأوسط وأفريقيا. أما الوضع الراهن فمختلف تماماً! لتصبح المجابهة بين القوى الإقليمية والأقطاب الدولية الرئيسية مفتوحة على مصراعيها، على مدار الكرة الأرضية.

ثالثاً: كان ثمة توافق على لجم تطوير التقنيات الحديثة؛ بحيث لا يطور أي طرف قدرات الهجوم أو الدفاع بما يخل بالتوازن. لكن التقنيات الحديثة والمُسيَّرات الفائقة والذكاء الاصطناعي، خلقت ظرفاً استراتيجياً جديداً غاية في التعقيد، أسقطت الآليات السابقة للرقابة والردع.

رابعاً: سمح تواطؤ الدول النووية مع دول متوسطة عديدة بتمرير التقنيات النووية، وانفلات آليات الرقابة والمعلومات، لتصبح كصندوق مغلق، تحكمه متغيرات ومخاطر يستحيل حسابها.

خامساً: إبان الحرب الباردة، كان ثمة التزام من قبل الدول النووية بتأمين الغطاء للدول غير النووية تجاه أي عدوان من دولة نووية. لكن هذه الضمانات سرعان ما تلاشت؛ سواء خلال الاحتلال الأميركي العراق بذريعة كاذبة. ثم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قدمت الدول الغربية وروسيا ضمانات أمنية لأوكرانيا، مقابل تخليها عن ترسانتها النووية؛ لكن الغزو الروسي لأوكرانيا كسر هذه الضمانات، وانتهت اللحظة الاستثنائية الشاذة لقارة لم تتوقف الحروب فيها لأكثر من خمسين عاماً.

والآن، وبغض النظر عن أي حساب مستقبلي، لا شك أن بقاء أوكرانيا خارج المنظومة النووية الأطلسية، يخلق لديها دافعاً عميقاً للتراجع عما تعتبره خطأ تاريخياً بتخليها عن أسلحتها النووية لصالح روسيا. فإما أن تنضم أوكرانيا للأطلسي، أو تصبح أوروبا مرتعاً تنمو فيه المشروعات النووية كالفطر، في غياب منظومة أمن وسلام أوروبية.

كل ذلك يجري في سياق ضعف بنيوي قاتل لمنظومة الحقوق الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة.

سادساً: بينما تسعى الولايات المتحدة لإبعاد أراضيها عن خطر الحروب، بدأت ترجح استعراض قوتها التكنولوجية المفرطة من بعد. وأصبحت تميل للخروج من بعض مناطق التوتر الدولي التي تنتشر فيها أسلحة الدمار الشامل والأقل أهمية لها.

يشكل الانسحاب من أفغانستان مثالاً صارخاً لهذه السياسة، وتتصادم بشكل عميق المصالح الاستراتيجية للدول النووية، مثل الهند وباكستان والصين وروسيا، ناهيك عن إيران. وها هي الولايات المتحدة تخفف التزاماتها في الشرق الأوسط، تاركة حلفاءها، بما فيهم إسرائيل، ليدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم. وتلك عملياً وصفة نموذجية لسباق تسلح نووي واسع.

سابعاً: الأنكى، أنه بعد نهاية الحرب الباردة أعطت الدول النووية لنفسها الحق في إعادة الاعتبار لمبدأ الحروب الاستباقية أو الانتقامية، ضد دول لا تمتلك أسلحة الدمار الشامل. كانت تلك حجة أميركا ضد الإرهاب في غزوها الكارثي للعراق وأفغانستان، وكذلك كانت حجة روسيا في حروبها ضد الإرهاب أيضاً، من جورجيا لسوريا، وأخيراً في أوكرانيا.

وبدل اعتماد الشرعية والمؤسسات الدولية، خلقت الحروب الاستباقية مناخاً من الإكراه السياسي والعسكري، انعكس بمزيد من حرص الدول المتوسطة على التحوط والردع الاستراتيجي.

أخيراً، يثير جدل الصراعات الراهنة بين الاستراتيجيين كثيراً من مغريات القبول والتطبيع مع فكرة الاستخدام التكتيكي للسلاح النووي.

وهكذا، وبينما يتداعى النظام الدولي القديم، تتعثر ولادة الجديد، وتتعدد الأسباب ليبقى الخطر الداهم واحداً، ونمضي، نحن البشر، في غفلتنا بثبات نحو الهاوية النووية.