الآن، وقد غادر سيلفيو برلسكوني إيطاليا والحياة، في رحلة بلا عودة، هل يمكن تخيّل إيطاليا من دونه، وكيف يا تُرى ستكون في غيابه؟
المرحلة البرلسكونية في شبه الجزيرة الإيطالية انتهت في الأسبوع الماضي، بوفاة مؤسسها. وهي مرحلة طويلة نسبياً زمنياً، ولا تبدأ في عام 1994 الذي يعلم لدخوله المعترك السياسي. بل قبل ذلك، بدخوله ميدان الإعلام. والعديد منّا يعرفون طبيعة تلك المرحلة وتقلباتها، وما شابها من فضائح واضطرابات، وما فعلته بإيطاليا، سياسياً واقتصادياً.
برلسكوني جاء إلى المعترك السياسي في سن السابعة والخمسين، معتلياً ظهر إمبراطورية إعلامية، شيّدها قطعة قطعة. ومن عليائها وسطوع أضوائها، وثب إلى المعترك السياسي. ويقول معلقون غربيون إنه لولا الفضائح التي ألمت في عام 1992 بالحزبين الرئيسين الديمقراطي المسيحي، والاشتراكي، ما كان برلسكوني ليفكر في الاقتراب من السياسة. وهو رأي قد لا يوافقهم فيه آخرون.
الرهانُ بعد وفاة سيلفيو برلسكوني، من وجهة نظري، ينصب بالضرورة على سؤال أو أسئلة ذات صلة وثيقة بطبيعة المرحلة المقبلة ومساراتها. وعلى سبيل المثال، هل ستكون «فورسا إيطاليا» الحزب الذي أسسه وقاده برلسكوني منذ عام 1994، جزءاً منها، أم أن الحزب سيختفي باختفائه؟ وفي حالة استمراره، من سيتولى الجلوس في مقعد الربان، والإمساك بالدفة، وقيادة الحزب في بحار السياسة الإيطالية وتعقيداتها وتقلباتها، وفي مرحلة تاريخية بدأنا نسمع فيها تصريحات علنية من قادة دول عظمى تهدد باللجوء إلى استخدام السلاح النووي؟ ومنْ مِنَ الساسة الحاليين يا تُرى، سيمد ظلال نفوذه على المرحلة المقبلة، ويسمها بوسمه كما فعل باقتدار برلسكوني؟
طريق إيطاليا إلى بوابة الخروج من أزماتها ليست واضحة. والأمر ليس جديداً. ولا أذكر شخصياً أن فترة زمنية مرت، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، من دون أن تشهد إيطاليا أزمة سياسية. ولعبة التكهن لن تكون في المتناول، ما لم يؤخذ في الاعتبار تأثير غياب سيلفيو برلسكوني من على طاولة شركائه في الائتلاف الحاكم حالياً. ومن سيكون منهم المستفيد الأول من غيابه، وكيف؟.
البعض من المعلقين يراهنون على أن رئيسة الائتلاف اليميني الحاكم جورجينا ميلوني ستكون أكبر الفائزين. والبعض الآخر يرجحون كفة شريكها في الائتلاف سالفيني. لكن المعادلة السياسية الإيطالية، كما خبرناها، منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، تتسم بتعقيد غير عادي، ناجم عن طبيعة النظام الانتخابي القائم على التمثيل النسبي. وهو نظام بطبيعته يحول بين حصول أي حزب على أغلبية برلمانية والاستئثار بالحكم، كما في بريطانيا مثلاً. في عام 2001 عاد برلسكوني إلى الحكم، للمرة الثانية، على رأس ائتلاف من يمين الوسط، وبأغلبية برلمانية غير مسبوقة، وقاد إيطاليا لفترة زمنية طويلة لم تشهدها من قبل أي حكومة إيطالية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن تلك الواقعة استثناء للقاعدة، ونادرة الحدوث، ولم تتكرر.
برلسكوني قضى في رئاسة الحكومة، على فترات متقطعة، قرابة عقد من الزمن، وهو رقم قياسي لم يحققه غيره. وتميّزت سنوات حكمه بفضائح سياسية وأخلاقية ومالية. والأخيرة تتعلق بتهمة تهرّبه من دفع الضرائب. وانتهت بإدانته قضائياً وحكم عليه بالسجن، لمدة ثلاث سنوات، خففت إلى عام واحد، وقضى العقوبة بأداء خدمة اجتماعية. كما شمل الحكم حرمانه من العمل السياسي لمدة ست سنوات. عاد بعد انقضائها إلى خشبة المسرح والأضواء، وفرض حضوره على الساحة. على أن أهم ما يميّز فترات حكم برلسكوني أنه انشغل بإصدار قوانين كان الهدف منها حمايته شخصيا من أي ملاحقة قضائية. ولذلك السبب، يعزو كثير من المعلقين أن أمر الحماية الشخصية لثروته وإمبراطوريته الإعلامية والتجارية كان السبب والحافز على دخول المجال السياسي. لكن أنصاره يفندون تلك المزاعم، ويقولون إن دخوله السياسة جاء بهدف خدمة بلاده وإنقاذها.
حين سقطت حكومة الوحدة الوطنية السابقة بقيادة ماريو دراغي في شهر يوليو (تموز) 2022، لم يكن خافياً على أحد الدور الذي لعبه برلسكوني في إسقاطها مع حلفائه اليمينيين. رغم أنه كان من الداعمين لها. وعاد إلى الحكم كشريك في الائتلاف اليميني بقيادة السيدة ميلوني، إلا أن السيدة ميلوني حرصت على تهميشه بمنحه دوراً ضئيلاً، الأمر الذي حزّ في نفسه وجرح كبرياءه، وتسبب في تعكير صفو العلاقة بينهما. وربما كان ذلك السبب وراء رغبته في تولي منصب رئيس الجمهورية لدى نهاية ولاية الرئيس الحالي. لكن حسابات السيدة ميلوني السياسية تعارضت، فيما يبدو، مع تلك الرغبة، ووأدتها. وكانت هي شخصياً من نعاه إلى الشعب الإيطالي والعالم في بيان.
المعلقون الإيطاليون يتفقون تقريبا على أن حزب فورسا إيطاليا سيكون أول ضحايا غياب برلسكوني في المرحلة القادمة. ويراهنون على اختفائه من الساحة بسرعة كما ظهر بسرعة، لعدم توفر قيادي بديل، بمهارة وكاريزمة برلسكوني وثروته. ويرون أن أصوات أنصاره انتخابياً سوف تتوزع على أحزاب اليمين، وأن نصيب حزب إخوة إيطاليا، الذي تقوده السيدة ميلوني، ربما يكون الأوفر حظاً.