مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

مجلس الأمن والسياق الثقافي للسلام

استمع إلى المقالة

في سابقة تاريخية، وأخيراً، تنبه مجلس الأمن الدولي للسياق الثقافي للسلام العالمي ليس بديلاً على الجانب الفني لعمليات السلام التي تقودها الأمم المتحدة حول العالم، ولكن كسياج ثقافي يحزم عمليات السلام بالحزام الأخلاقي المطلوب في عالم أصبح فيه حديث الكراهية والعنصرية والتحيز ضد الأقليات أمراً يزداد كل يوم بازدياد قوة الإعلام البديل. بإجماع الأعضاء صوّت مجلس الأمن على مبادرة بريطانيا والإمارات التي تدعو لمعالجة الخلل الثقافي الدولي الخاص بالسلام والأمن الدوليين في قرار تاريخي يحمل رقم 2686 لسنة 2023.

هناك معاهدات واتفاقات مختلفة قامت بها الأمم المتحدة في ما يخص حقوق الإنسان وقضايا المرأة، فما المختلف في هذا القرار؟ ولماذا هو أمر ضروري الآن؟

جزء كبير من الصراعات يكون التطرف والكراهية والعنصرية أساسية فيها، بل هي المحركات الأساسية للنزاعات والعنف؛ فاستهداف المجموعات العرقية الضعيفة يبدأ دوماً بخطاب الكراهية، فالإنسان بطبيعته غير قادر على العدوان على أخيه الإنسان الذي يشبهه؛ لذلك لابد أن يخرجه من إطار الإنسانية كي يستطيع ممارسة العنف ضده، فالإخراج من مجال الإنسانية في العام أو الإخراج من الملة والتكفير هو البداية التي يرى من خلالها المعتدي أن عدوانه مبرر ومشروع. إذن خطاب الكراهية والعنصرية وخلق حالة الغيرية هو أولى خطوات القتل والعنف التي تسول للإنسان تبرير قتل أخيه الإنسان. هذا السياق الثقافي كان غائباً عندما كانت الأمم المتحدة تتدخل لإرساء السلام في مناطق مختلفة من العالم، كل ما كان موجوداً من قوات الأمم المتحدة في سيناء في الخمسينات والستينات وما بعدها أو في أفريقيا كان مجرد قوة أممية تفصل ما بين القوى المتصارعة مثل قوة «اليونيفيل» في جنوب لبنان، ولكن ليس هكذا تحل الصراعات، فالأمر يجب أن يصل إلى فهم جذور المشكلات التي هي في أساسها ثقافية (دينية وعرقية وجندرية)، هذا الفهم يأخذنا إلى النظرة العميقة لأسئلة السلام والعنف التي أساسها شيطنة الآخر المختلف. وخطابات الكراهية والغيرية وضيق مساحات التسامح هي محركات أولية في خطاب شيطنة الآخر من أجل صناعة العدو.

المبادرة الإماراتية البريطانية أصبحت قانوناً دولياً يفرض على الدول الأعضاء التزامات أساسية لمواجهة خطاب الكراهية والتصدي للأعمال العنصرية بأشكالها، وتخصص الأمم المتحدة آليات محددة من أجل تعليم خطاب السلام والتسامح. هذه الخطوة أساسية وأولية في إرساء ثقافة السلام.

لم يكن صامويل هنتينغتون على خطأ عندما طرح فكرة صراع الحضارات، تلك الفكرة التي تحدد جوهر الصراعات القادمة في جوهرها الثقافي، ولكنه ضل الطريق في رؤيته للصراع الثقافي خارج سياق المدرسة الواقعية التي ترى العالم في سياق صراع أساسه قوة الدولة، وترى أن الحضارات بل الدولة هي الوحدة الأساسية في النظام الدولي. ولكن عندما يطرح سؤال الصراعات التي أساسها الثقافة في إطار الأمم المتحدة المبنية أساساً على أن الدولة هي الوحدة الأولى في العلاقات الدولية، نكون بهذا قد وضعنا سياق السلام في إطاره الصحيح والمناسب.

تتبنى دولة الإمارات العربية المتحدة حزمة من المبادرات للتعايش السلمي بين الثقافات والأديان منذ فترة، وتصعيد هذه المبادرات إلى أن تصل إلى موقعها الأممي يعد جهداً دبلوماسياً جديراً بالإشادة، ويدل على نضج تلك الدبلوماسية التي تتخذ خطوات واضحة لتحويل المبادرات إلى قوانين وأعراف تتبناها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

حديث شيخ الأزهر عن الأخوة الإنسانية في مجلس الأمن، وكذلك حديث بابا الفاتيكان عن الأزمات الإنسانية نفسها، والدعوة إلى التعايش معاً هو البناء الطبيعي لزخم يخدم هذه المبادرة الدولية، وتلك هي الطريقة الصحيحة للإقناع، وليس مجرد مبادرات بلا أرجل تقف عليها. يحمد للإمارات كل هذه المبادرات التي تصب في دعم السلام والأمن الدوليين، وما تقوم به هو نموذج يؤكد أن الدول الصغرى يمكن لها أن تؤثر في النظام الدولي إذا ما اتخذت السبل الصحيحة لطرح مبادراتها التي في نهاية الأمر تصب في مصلحة الدولة صاحبة المبادرة.

السياق الثقافي الحاكم للصراعات الدولية أمر مهم في تناول القضايا الدولية، خصوصاً في الأمور التي لا تستطيع أدوات الأمم المتحدة التقليدية مواجهتها. العنصرية والكراهية والتطرف هي خطابات لا يمكن التعامل معها خارج قوة الدولة، ومتى ما قررت الدول مواجهة خطاب الكراهية والتطرف من أعلى ومن خلال القوانين تنتهي المشكلة كما رأينا في حالات كثيرة، وأقرب مثال لذلك ما حدث في السعودية في عهد الملك سلمان الذي قال إن الدولة وحدها هي القادرة على القضاء على خطاب التطرف والكراهية.