نشر الكاتب أمير طاهري مقالاً في صحيفة «الشّرق الأوسط» الغراء تحت عنوان «العراق وطهران... أوهام»، (9/6/2023). تعرض فيه لتسمية العراق وبغداد، وجعلهما فارسيتين، بينما كان يتحدث عن الوضع الرَّاهن. ورد في مقاله الآتي، وأتوخى حسن النّية فيما طرح: «كلمة العراق، التي تعني الأراضي المنخفضة، هي نفسها من أصل فارسي. بغداد عطية الله، هي أيضاً كلمة فارسية، بينما كانت بابل وطيسفون، قرب بغداد اليوم، عاصمتين للإمبراطوريات الفارسية المتعاقبة لأكثر من 1000 سنة». أقول: إذا كان الكاتب يُقدم نفسه كاتب رأي فهذه المعلومة ليست رأياً، إنما تاريخ يحتاج إلى بحث ودراسة.
نعم، اشتقّت المعاجم العربية تسمية العراق من عروق الشَّجر، أو لأنه يقع على شاطئي دجلة والفرات، وقيل: مِن إيراك، كان ذلك قبل أن تُكشف آثار العراق القديمة، ويظهر اسم أوروك أو الوركاء العاصمة الشّهيرة في ملحمة جلجامش، جنوب العِراق، ولا أظن أنَّ السيطرة الساسانية أو الفرثية، وكل مَن نطق بالفارسيَّة، قد أدرك الوركاء وجلجامش.
لذا شكّك المؤرخ الجغرافي البريطانيّ كي لسترنغ (ت: 1933)، ونبه إلى إشكالية استخدام تسمية «العراق»، قال: «كيف جرى استعمال هذا الاسم في العهود السَّالفة، فأمرٌ يعتريه الشَّك، فلعله يمثل اسماً قديماً ضاع الآن، أو أنه أُريد به في الأصل عن هذا المعنى. وكان العرب يسمون السهل الرُّسوبي بأرض السَّواد، واتسع مدلول كلمة السّواد حتى صارت هي العراق، لفظتين مترادفتين في الغالب» (بلدان الخلافة الشرقية).
وجد الباحثون هذا الاسم القديم منحوتاً من اسم أوروك أو الوركاء، مدينة جلجامش، وهذا ما ذهب إليه البحاثة الآثاريّ طه باقر (ت: 1984): «وإنه -أي العراق- مشتق من كلمة تعني المستوطن، ولفظها أوروك أو أنوك، وهي الكلمة التي سُميت بها المدينة الشَّهيرة الوركاء... وفي العهد الكشي، في منتصف الألف الثَّاني قبل الميلاد، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة إيريقا، الذي صار الأصل العربي لبلاد بابل أو لكلمة العراق»، (الآلوسي، اسم العراق)، وسالم الآلوسي بحّاثة معروف، رد في كتابه «اسم العراق» على محاولات تجاهله. على أيّ حال، لماذا يُحار بأصل اسم العراق، والأرض كان اسمها (أوروك)، أو(إيريقا)، وليس هناك مانع من تبدل: الهمزة إلى عين، والقاف إلى كاف؟!
أما عن اسم بغداد، فأفاد الباحثان القديران بشير فرنسيس وكوركيس عواد بأنَّ أصل التَّسمية آرامي، وتعني مدينة الضأن أو الغنم. وأفادا أيضاً: ورد الاسم في العصر البابلي والآشوري «بغدادو» و«بغدادي» أو «خودادو». وأن مدينة قريبة من بغداد الحالية وإقليماً أيضاً كانا يُعرفان بمثل هذا الاسم في العصر البابلي (هامش بلدان الخلافة الإسلامية. أُصول أسماء الأمكنة العراقية، مجلة سومر 1952).
وفي اسمها أيضاً قال الخبير في اللغات القديمة يوسف متي: تسمية بغداد آرامية سريانية: باغ تعني البيت، وداد تعني الخيط، أو غنم، أو نسيج العنكبوت. فبغداد: (بيت الخيط)، أو (بيت الغنم)، أو (بيت العنكبوت). و(باغ) تعني أيضاً بالآرامية السِّريانية «جُنينة، بحر، بَطيحة، سعد». كان أبو جعفر المنصور(ت: 158هـ) قد شيَّد عاصمته الجديدة على موقع قرية تُعرف باسم بغداد منذ أيام حمورابي، وسماها «مدينة السَّلام» تيمناً بالجنة، كأنه فهم معنى اسمها في لغة أهل بابل، ألا وهي البستان أو الجُنينة (محاضرة في مقر اتحاد أدباء العراق).
إنّ تسمية المدن العراقيّة، والتي تبدأ بحرف الباء الآراميّة، وتعني البيث أو البيت، كثيرة، وما زالت «بعقوبا: بيت المفتش، وباعذرى: بيت العماد، وباعشيقا: بيت المظلومين، وباصيدا: بيت الصَّيد، والبصرة: بيت الجداول، وباخمرا، وباجسرا وغيرها»، فيا عجبي لماذا تكون بغداد وحدها فارسيَّة؟ طوال السيطرة الفارسيّة على العراق، والتي حسبها الكاتب بألف عام، ولستُ في محل مناقشة هذا الرقم، ظلت لغة العراق الآراميَّة، بدليل أن الفارسيَّة لم تكن لغة منافسة، كي تسمَّى الأمكنة بها.
أُعلن شديد أسفي أن يصل بنا الحال لنكون مدافعين عن تاريخ بلاد حكمت المشارق والمغارب ولم تحنّ إلى عصر الإمبراطوريات، وإلا ألم يكن اسم إيران نفسها «عراق العجم»، كي يكون اسما بغداد والعراق فارسيين، كأن الفرس عندما غزوا العراق لم تكن لمدن هذه الأرض أسماء، انتظرت حتَّى يأتي الفُرس ليسموها؟!
ما كان هذا النِّقاش مطروحاً بشدة إلا بعد (2003)، يومها ظهرت كتابات كثيرة، وليست لي تسميتها بالآراء، لأن الرَّأي عادةً يستند إلى دراية أو رواية، فماذا نقول لمَن كتب نافياً اسم العراق نفسه، حتَّى اضطررت إلى جمع ما قاله شعراء الجاهلية والإسلام فيه؟ حينها حسبتُ نفسي أُعيد اكتشاف المكتشَف، لكن فعلتُ ذلك على مضض. فالانهيار الذي حصل لم يعانِ منه العراقيّ في حياته، إنما عانى منه العراق نفسه مِن الطّعن بوجوده، وإلا ما حاجتنا إلى إثبات أنّ العراق كيان واسم قديم؟ وهل تحتاج بغداد إلى البحث في اسمها، وتأكيد عراقته وعراقيته، لولا إخضاعها، مدينةً واسماً، للجدل، البعيد عن الحقّ؟