احتفل ملايين العمال في العالم ومعهم لبنان بعيد العمال الذي يوافق في 1 مايو (أيار) من كل عام ويكون عطلة رسمية في بعض البلدان، حيث أصبح هذا اليوم رمزاً لنضال الطبقة العاملة من أجل حقوقها. يُقام في بعض البلدان احتفال سنوي تنظمه حركات عمالية ونقابية، طابعه دولي، شيوعي، لا سلطوي، فوضوي، اشتراكي، علماني، والرمز الأكثر تداولاً في عيد العمال متعلق بالشيوعية وهو المنجل والمطرقة، إضافة إلى اللون الأحمر. لكن فكرة «عيد العمال» ليست شيوعية، بل هي فكرة «اشتراكية» تم تبنيها في مؤتمر للاشتراكية الدولية في أمستردام عام 1904.بدأ الاحتفال بعيد العمال من القرن التاسع عشر في أستراليا، إذ إنه قبل ذلك التاريخ ومع بداية الثورة الصناعية (1760-1830) في بريطانيا العظمى، كانت حياة العمال في المصانع كالجحيم، حيث كان يوم العمل يتراوح بين عشر وست عشرة ساعة وأسبوع العمل يصل إلى ستة أيام في الأسبوع، كما كانت عمالة الأطفال منتشرة، وما يرافقها من عدم سلامة وأمن صناعي أو صحي أو انتشار أوبئة وأمراض بين العمال وخاصة الأطفال، ما أدى إلى ظهور حركة «الثماني ساعات يومياً»، التي تهدف إلى تنظيم يوم العمل ومنع الانتهاكات.
روبرت أوين، أحد مؤسسي «الاشتراكية الطوباوية»، كان أول من طالب بشعار: «ثماني ساعات عمل»، «ثماني ساعات راحة»، «ثماني ساعات ترفيه»، ومُنحت النساء والأطفال في إنجلترا ميزة عشر ساعات يومياً عام 1847، أما في فرنسا فقد حصل العمال الفرنسيون على اثنتي عشرة ساعة يومياً بعد ثورة فبراير (شباط) عام 1848، بينما كانت الولايات المتحدة تعيش الثورة الصناعية الناشطة، حيث إن العمال الأوروبيين المهاجرين إلى العالم الجديد يمثلون الشريحة الكبرى للقوة العاملة في أميركا.
وكان من بين قادة الحركة العمالية الأميركية عدد كبير من الاشتراكيين والشيوعيين وغيرهم من اليساريين الذين كانوا يؤمنون بضرورة القضاء على النظام الرأسمالي من أجل إنهاء الاستغلال، إذ إن العديد من هؤلاء القادة المهاجرين من أصول ألمانية والذين تأثروا برأي كارل ماركس في كتابه (الذي صدر في ثلاث مجلّدات ونُشر المجلد الأول منه عام 1867): «إن الإنتاج الرأسمالي يتسبّب من خلال تحديد يوم العمل لا في تدهور قوة العمل البشري عن طريق سلبه الظروف المعنوية والمادية الطبيعية للنمو والنشاط فحسب، وإنما يتسبب أيضاً في استنفاد وموت هذه القوة العاملة نفسها».
من أستراليا بدأت الحكاية في 21 أبريل (نيسان) من عام 1856، بعد أن نجح عمال البناء في ملبورن، سيدني، عُرفوا حينها بـ«حركة الثماني ساعات يومياً»، في تحقيق مطالبهم بتخفيض ساعات العمل إلى 8 ساعات يومياً، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد حوالي ثلاثين عاماً، وذلك بعد الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865). وبعد فترة كساد طويلة، حدث توسع كبير في مجال الإنتاج الصناعي وكانت شيكاغو من أهم المراكز الصناعية في تلك الفترة، لكن العمال، وغالبيتهم من أصول ألمانية، كانوا يحصلون على أجر لا يزيد على دولار ونصف يومياً مع عمل لا يقلّ عن عشر ساعات ولمدة ستة أيام في الأسبوع، فأصبحت المدينة مركزاً لنشاطات عمالية لتنظيم وتحسين ظروف العمل. وهكذا، خلال فترة الكساد، كانت المنظمات الاشتراكية والفوضيون ناشطين في الولايات المتحدة، ونقابات العمال كانت في صراع مرير مع أرباب العمل في المصانع والشركات الكبرى.
لكن ما الذي أشعل فتيل «قضية هايماركت»؟
في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1884، عُقد اجتماع للاتحاد الوطني لنقابات العمال والتجار، حيث تم تحديد الأول من مايو عام 1886، يوم البدء بالعمل ثماني ساعات يومياً فقط، وبالفعل شهدت العديد من المدن الأميركية، يوم السبت 1 مايو عام 1886، إضراباً عاماً ومسيرات عمالية شارك فيها آلاف العمال، وكان الشعار الذي توحّد خلفه جميع العمال في ذلك اليوم هو «ثماني ساعات في اليوم دون اقتطاع للأجور». وبلغت التقديرات لأعداد العمال المشاركين في المسيرات والإضراب العام بين 300 و500 ألف عامل.
وفي الثالث من مايو التقى العمال المضربون في شيكاغو قرب «مصنع ماكورميك لمعدات الحصاد»، حيث مُنع عمال اللحام من دخول المصنع منذ فبراير، فيما سمح المصنع للعمال الذين رفضوا الإضراب بالدخول بصورة طبيعية وسط معارضة من العمال المضربين. وعندما انتهت ساعات العمل في المصنع في ذلك اليوم، قام حشد من العمال المضربين بمحاولة الاعتداء على العمال غير المضربين، فأطلقت الشرطة النار على المضربين، ما أدّى إلى مقتل عاملين، وفي روايات أخرى ستة عمال.
أما في الرابع من مايو فاجتمع العمال في الميدان في مسيرة بدأت سلمية وبحضور قيادات عمالية ونقابية وبمشاركة ثلاثة آلاف عامل، يقابلهم أعداد كبيرة من عناصر الشرطة الذين توجهوا إلى الخطباء العماليين طالبين منهم فضّ الاحتجاج، فأصرّ القيادي العمالي البريطاني صامويل فيلدن على أن الاحتجاج سلمي. وخلال تلك المحادثة المشحونة، انفجرت قنبلة يدوية الصنع بين المتظاهرين فقُتل اثنا عشر شخصاً من بينهم عدد من أفراد الشرطة.
وبناء على تلك الحادثة اعتقلت السلطات الأميركية ثمانية أشخاص من الفوضويين، ووُجهّت لهم اتهامات بالتآمر، وبعد التحقيق تبيّن أن أحدهم فجّر القنبلة لكن أحداً منهم لم يُلقها على الشرطة خلال الفوضى في هايماركت. وصدر حكم الإعدام لسبعة منهم، بينما حُكم على الثامن بالسجن خمسة عشر عاماً، وأصدر حاكم ألينوي قراراً بتخفيض الحكم على اثنين من المحكومين بالإعدام إلى حكم السجن المؤبد، بينما انتحر ثالث وهو في السجن، وتم إعدام الأربعة الآخرين شنقاً، وذلك في الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1887.
وهكذا أصبحت أحداث «هايماركت» أصل الاحتفال بعيد العمال العالمي في الأول من مايو، بحسب المؤرخ وأستاذ الدراسات العمالية ويليام إدلمان. وتم إعلان يوم العمال العالمي رسمياً في عام 1889 في المؤتمر الاشتراكي الدولي الأول الذي أُقيم في باريس للاحتفال «بقضية هايماركت» Hay market، نتيجة الاشتباكات وأعمال الشغب التي وقعت بين الاتحاد وشركة شيكاغو عام 1886.
لكن إذا عدنا إلى التاريخ نجد أن العمل بـ«ثماني ساعات يومياً» قد تحقق في عام 1840 عندما تمكّن النجار صامويل بارنيل من الحصول على هذا الحق في العاصمة النيوزيلندية «ويلينغتون». حيث حققت نيوزيلندا الاحتفال بأول عيد عمال في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1890، قبل أن يتم تعديله إلى رابع يوم من أكتوبر من كل عام.
احتفل العمال والنقابيون في لبنان بعيد العمال في اليوم الأول من هذا الشهر، ولكن هل فرح العامل اللبناني بعيده وهو إما لا يعمل أو تضطره الظروف المعيشية للجوء إلى أكثر من عمل في اليوم، إن توفّر، وأثناء الليل أحياناً من أجل تأمين مدخول ربما أو قد يؤمن له عيشاً كريماً؟.
* باحثة لبنانية