لا يخلو الإعلان عن اسم الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» من إثارة... هذه الحكاية تتكرر كل عام. موجات المؤيدين والمرحبين تقابلها عواصف المعارضين والغاضبين، وللجميع حقه في التعبير عن آرائه.
وهذا ما حدث هذا العام مع إعلان فوز الشاعر والروائي العُماني زهران القاسمي، عن روايته «تغريبة القافر» بهذه الجائزة، وهي أكبر جائزة عربية للأدب الروائي، لا شيء جديداً سوى بعض التعليقات التي أظهرت الاستغراب فضلاً عن التشكيك بفوز روائي عماني بهذه الجائزة.
ثمة من المثقفين والقراء من لا يتابع التطور الأدبي والثقافي في دول الخليج، ومن هو منفصل تماماً عن مسار الإبداع الروائي في هذه الدول، ومن بينها سلطنة عُمان التي أصبحت تقدم مبدعين للصفوف الأمامية عاماً بعد عام، نذكر منهم جوخة الحارثي التي حصدت جائزة «البوكر» الدولية، ومواطنتها عائشة السيفي التي حصلت على لقب «أميرة الشعراء» في الموسم الماضي، مع صفّ طويل من المبدعين في مجال الشعر والنقد. نعم فن الرواية في عمان كان يُحمى على نار هادئة حتى ظهر في التوليفة الذكية التي عبّر عنها زهران القاسمي، مقتفياً أثر الماء، سرّ الحياة في القرى العمانية الباحثة عن منابع المياه الجوفية عبر الأفلاج، النظام الفلاحي القديم للريّ في الحياة القروية، وبذكاء يوظف الأسطورة القديمة: ماذا لو كان الماء الذي يمنح الحياة للكائنات هو مصدر موتها وفنائها، من خلال ندرته أو بسبب الفيضان؟
رئيس لجنة التحكيم، محمد الأشعري، قال إنه تمّ اختيار رواية «تغريبة القافر» لزهران القاسمي للفوز بالجائزة «لكونها اهتمت بموضوع جديد في الكتابة الروائية الحديثة وهو موضوع الماء في علاقته بالبيئة الطبيعية وبحياة الإنسان في المناطق الصعبة»، مضيفاً: «قدم الكاتب لنا هذا الموضوع من خلال تآلف مستمر بين الواقع والأسطورة، ويفعل ذلك من خلال بناء روائي محكم ولغة شعرية شفافة ومن خلال نحت شخصيات مثيرة تحتل دوراً أساسياً في حياة الناس، وفي الوقت نفسه تثير نفورهم وتخوفهم، وقد استطاع أن يقربنا من مسرح غير مألوف للرواية المتداولة في الوطن العربي، هو مسرح الوديان والأفلاج في عُمان وتأثير العناصر الطبيعية في علاقة الإنسان بمحيطه وبثقافته».
يشبه بعض التعليقات التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي بعد فوز زهران بالبوكر، تلك التي واجهتها مواطنته عائشة السيفي؛ التشكيك والانتقاص، هذه التعليقات تشي بمرض متفشٍّ في الذات الثقافية لدينا، نحاول عبثاً أن نداريه بمساحيق التجميل! لكنه يطفو كالبثور في الوجه عندما يتعرض لامتحان الضوء والصورة والمكانة والمنصب والقيمة المادية.
تتكرر كل عام، وبخاصة عندما يفوز مبدع خليجي بالجائزة، موجة التعليقات الغاضبة والساخرة التي تضرب خبط عشواء. من حق الناس تقييم العمل الروائي ونقده لا شيطنته أو تأطيره أو حبسه في تابوهات مناطقية أو عنصرية، أو إخضاعه للثقافة الاستعلائية التي تحملها فئة من المثقفين، فموجة السخط التي تلفّ وسائل التواصل كلما أُعلن عن فوز مبدعٍ خليجي تدعو للاشمئزاز فعلاً.
كذلك الحال بالنسبة للكلام المموه الذي يقول: إن توزيعات «البوكر» تخضع لرغبات التقسيم الإقليمية... حدث شيءٌ مشابه قبل شهور، عندما واجهوا الشاعرة العمانية الفائزة بجائزة «أميرة الشعراء» بسيل من التشكيك والتشويه والسخرية، وقالوا عندها إن القائمين على جائزة «أمير الشعراء» قرروا هذه الدورة أن يمنحوها لامرأة، فكانت العمانية عائشة السيفي...!
منذ أُطلقت الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2007 في أبوظبي، بتمويل من دائرة الثقافة والسياحة هناك، وبرعاية من مؤسسة جائزة بوكر البريطانية، حصد المبدعون الخليجيون حصة الأسد في هذه الجائزة عبر سنواتها الـ16 (5 من 16 فائزاً)، وكانت الحصة الكبرى حسب الجغرافيا لصالح السعودية (3 فائزين)، مع أن الروايات الفائزة هي غالباً من نسيج الروايات المتأهلة للقائمة القصيرة، ويمكن لأي واحدة من الروايات الست أن تحظى بالجائزة. وهذا يثبت أن العالم يتغير، وخريطة الإبداع أيضاً تتحرك، وثنائية المركز والأطراف التي نبتت في خيالات بعض المثقفين العرب، لم تعد موجودة، فدول الخليج أصبحت تقدم أشكالاً من الإبداع الأدبي والثقافي والعلمي والإنساني يشابه أو ربما يتفوق على الكثير من التجارب المنافسة حول العالم، وليس على المستوى العربي فقط. الغريب أن العالم أصبح يفتح عينيه على حركة التقدم التي يشهدها الخليج، ولكنّ بعض المثقفين العرب ما زالوا مسكونين بالصورة الذهنية القديمة.