في الأسابيع الأخيرة، باتت كل من روسيا والصين تتخذ بعض المبادرات الإعلامية - الدبلوماسية «غير المتناظرة» تجاه بعضهما بعضاً، والتي جذبت الكثير من الاهتمام في وسائل الإعلام العالمية، وأظهرت في الوقت نفسه أوجه التشابه والاختلافات الدقيقة في أهداف سياستيهما الخارجية.
بالنسبة لروسيا، تجدر الإشارة هنا، بشكل خاص، إلى المفهوم الجديد للسياسة الخارجية للاتحاد الروسي، الذي تمت الموافقة عليه في 31 مارس (آذار) من هذا العام، بمرسوم صادر عن الرئيس فلاديمير بوتين. لا أضع أمامي في هذا المقال الصغير مهمة التعليق، أو حتى الأكثر من ذلك، العمل على الترويج لهذه الوثيقة المهمة، على الرغم من أنني أقدّر عالياً جودتها. أريد هنا فقط أن أبرز عدداً محدوداً من النقاط الجديدة ذات الصلة المباشرة بالشرق الأوسط. بالمناسبة، على الرغم من عدم تكرار ذِكر دول ومناطق معينة في المفهوم الجديد للسياسة الخارجية كما هو الحال في الوثائق السابقة المماثلة، غير أن الشرق الأوسط مذكور في هذه الوثيقة خمس مرات. فهذا وحده إن دل على شيء، فإنما يدل على المكانة العالية لهذه المنطقة على مقياس أولويات روسيا.
على سبيل المثال، ما يلفت الانتباه الاهتمام الكبير المكرّس لأهمية العاملين الديني والحضاري، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لمثل هذه الوثيقة. يتضح هذا، أولاً وقبل كل شيء، من حقيقة أن المفهوم يحتوي على فصل كامل مخصص للعالم الإسلامي، والذي ينص على أن «دول الحضارة الإسلامية الصديقة باتت من شركاء روسيا الأكثر شعبية وموثوقية، وباتت تُفتح أمامها، في واقع عالم متعدد الأقطاب، آفاق واسعة لتصبح مركزاً مستقلاً للتنمية العالمية». وتمت في هذه الوثيقة أيضاً تسمية دول عدة في المنطقة، ستعطي لها موسكو الأولوية في التفاعل والشراكة معها. وتمت كذلك الإشارة إلى أولوية تشكيل «بنية شاملة مستدامة للأمن الإقليمي والتعاون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على أساس توحيد إمكانات جميع الدول والاتحادات القائمة بين دول المنطقة، بما في ذلك جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية».
إن التركيز على المكون الديني للسياسة الخارجية يعززه حقيقة أن المفهوم يتحدث، لأول مرة مقارنة بوثائق مماثلة سابقة، عن تعزيز التعاون مع الحلفاء والشركاء، ليس فقط من أجل مكافحة الإرهاب، بل «وبما في ذلك من أجل حماية المسيحيين في الشرق الأوسط». كما تم التطرق لدور الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. ويمكن الافتراض أن وجود أجندة دينية جديدة في مفهوم السياسة الخارجية لروسيا يهدف إلى تقريبها من دول الشرق الأوسط، حيث مستوى التدين والقيم التقليدية المحافظة أعلى بكثير مما هو عليه في الغرب. وهذا يؤكد التقارب الروحي مع شعوبها؛ الأمر الذي أشار إليه القائمون على صياغة هذا المفهوم.
لكن، دعونا ننتقل إلى الصين، التي تتميز أجندتها الخارجية بخصوصيتها وبتعدد الألوان فيها؛ الأمر الذي تأخذه القيادة الروسية بعين الاعتبار، وتتعامل باحترام ثابت حتى مع تلك العناصر التي تختلف فيها إلى حد ما عن الأجندة الروسية. في هذا الصدد، جذبت في الآونة الأخيرة الانتباه العام خُطب ومقابلات تبدو متناقضة في كثير من الأحيان لعدد من الدبلوماسيين الصينيين، الذين يقولون إنهم يتحدثون عن رأيهم الشخصي، ولكنهم، كما يؤكد محللون، ربما يكونون قد تلقوا تعليمات بالتعبير عن الموقف الرسمي - المتناقض تماماً واقعياً - وكأنه رأيهم الشخصي، بحيث لا يكون هناك ضجة إعلامية كبيرة حوله.
في هذا السياق، تجدر الإشارة أولاً وقبل كل شيء، إلى تصريحات السفير الصيني لدى الاتحاد الأوروبي، فو كونغ (Fu Cong)، في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة «نيويورك تايمز» في 5 أبريل (نيسان) من هذا العام، قبل رحلة إيمانويل ماكرون وأورسولا فون دير لاين إلى بكين. يشير الصحافي الروسي المعروف ألكسندر خرامتشيخين، من «المجلة العسكرية المستقلة»، في العدد 21 - 27 أبريل من هذا العام، إلى الأهمية السياسية لتصريح فو كونغ القاطع للغاية بأن جميع الكلمات حول «الصداقة اللامحدودة» بين الاتحاد الروسي والصين (التي غالباً ما تظهر في تقارير وسائل الإعلام) ليست أكثر من كلام.
عند تحليل موقف الدبلوماسي الصيني، يؤكد الصحافي الروسي أن بكين، أولاً، لا تدعم العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وثانياً، لا تعترف بشبه جزيرة القرم على أنها روسية، وثالثاً، لا تعترف بشرعية الاستفتاءات في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، ومنطقتي خيرسون وزابوروجيه، التي جرت في خريف عام 2022، ورابعاً، لا تنوي تقديم مساعدة عسكرية لموسكو. بالطبع، لا يزال بإمكان كل شيء أن يتغير في مثل هذه الظروف الدراماتيكية التي نعيشها الآن، لكن لا يمكن ألّا نلاحظ ظرفاً آخر مهماً للغاية، وهو: أن كل هذا ليس له بأي حال من الأحوال أي تأثير سلبي على العلاقات الروسية - الصينية، التي، في مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، توصف تقليدياً بأنها «علاقات شراكة شاملة وتفاعل استراتيجي» (للمقارنة: فيما يتعلق بالهند، يشير المفهوم إلى «شراكة استراتيجية مميزة بشكل خاص»). ومع ذلك، أكد ممثلو وزارة الخارجية الصينية في وقت لاحق بالفعل كلام السفير، عندما صرحوا رسمياً بأنه لا جدوى من إثارة النقاش حول «الصداقة اللامحدودة». فهذا مفهوم؛ ذلك لأن مثل هذا التعبير موجود في البيان الختامي الموقّع منذ وقت ليس ببعيد من قِبل رئيسي روسيا والصين لنتائج لقائهما.
بالمناسبة، من الجدير بالذكر أن الزعيم الصيني والقادة الآخرين للبلاد، في خطاباتهم وفي حديثهم عن النظام العالمي الجديد الناشئ، يفضلون استخدام مصطلح «التعددية» بدلاً من «التعددية القطبية»، وهو مصطلح يستخدمه عادة الروس الذين، في الوقت نفسه، ليس لديهم أي اعتراض على العبارة الصينية. إذ يتضح هذا، على وجه الخصوص، من حقيقة أن مصطلح «التعددية» يمكن الآن سماعه حتى من قِبل السياسيين الروس.
خلص الصحافيون الذين أجروا مقابلة مع السفير فو كونغ لصحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن فو مكلف إبعاد بكين عن موسكو. وبالكاد يمكن الاتفاق مع هذا، بالنظر إلى طبيعة العلاقات الروسية - الصينية، لكن من الواضح أنه لا يمكن الحديث عن تطابق تام للمواقف حول الأجندة الدولية.
في الوقت نفسه، يتفق المراقبون الروس على أن بكين اليوم تعمل بنشاط كبير على وضع نفسها وسيطاً وصانع سلام في النزاعات المختلفة، بما في ذلك تلك التي تتجاوز إطار النزاعات الإقليمية في الأهمية. أما بالنسبة للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، والتي ترتبط حالتها ارتباطاً مباشراً بالحقائق التي أنظر فيها، فيجب ألا يغيب عن البال أن الصين تحتل المرتبة الثالثة بين الدول التي يتم تصدير البضائع إليها من الاتحاد الأوروبي، والأولى بين الموردين للاتحاد الأوروبي. لذلك؛ لا يبدو غريباً قول السفير فو كونغ بأن بكين مستعدة لصفقة مع الاتحاد الأوروبي بشأن العقوبات والاستثمار.
القدر نفسه من الصدى لاقته مقابلة تلفزيونية فرنسية حديثة مع السفير الصيني لدى فرنسا لو شاي (Lu Shaye)، في تناقض صارخ مع مقابلة السفير فو كونغ، والتي، وفقاً للمحلل تايلر دوردن (Tyler Durden) في تعليق بتاريخ 24 أبريل، «شكك خلالها في مسألة سيادة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق».
من أين جاء هذا الاستنتاج؟ جاء من أطروحته المبنية على أنه «لا يوجد اتفاقية دولية تحدد وضعهم كدول ذات سيادة»! ويؤكد تايلر دوردن أن هذا ينطبق أيضاً على أوكرانيا بطبيعة الحال. ولم يكن مستغرباً استدعاء السفراء الصينيين على الفور في كل من ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا إلى وزارات خارجية هذه الدول للحصول على تفسيرات بخصوص هذا التصريح.
والأمر نفسه أيضاً أثار أسئلة لدى مفوضية الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، بيد أنه بعد التوضيحات التي جاءت فوراً من وزارة الخارجية الصينية، قال جوزيب بوريل إنه راضٍ عن موقف بكين الرسمي، الذي جاء فيه أن الصين «لا تشكك في سيادة جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، سواء كانت جمهوريات آسيا الوسطى أو القوقاز أو دول البلطيق».
إذن، ماذا كان هذا؟ ارتجال فاشل لدبلوماسي، أم غموض مقصود في الموقف السياسي؟
TT
موسكو وبكين: عاصفة دبلوماسية «غير متناظرة»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة