صناعة الكوميديا مكلفة، ليس من جهة المادة، لكن من حيث ألمعية الفكرة ورسم السيناريو. حتى في مصر التي سجل لها التاريخ، بأداء المبدع عادل إمام، «شاهد ما شافش حاجة»، و«مدرسة المشاغبين» لم تتكرر على المستوى نفسه، لكن ظلَّت مصر بلا شك هي صانعة الكوميديا الأولى في العالم العربي. الكويت أيضاً أنتجت عدداً من المسلسلات الكوميدية مع الثنائي السيدتين سعاد عبد الله وحياة الفهد. وسوريا كان فيها الثنائي دريد لحام وناجي جبر في مسلسل «صح النوم». ومع أداء الممثلين لأدوارهم بكل براعة، لكن تظل أزمة صناعة الكوميديا في النص. غالباً لا يوجد نصٌّ كوميدي جيد بأداء سيئ، لكن العكس هو الدارج. كثير من الأعمال التي حاولت أن تحقق نجاحات كبيرة لم يتسع الواقع لها، فظهرت متواضعة لضعف الفكرة أو النص. هل ترحل الكوميديا مع رحيل كتّابها مثل علي سالم في مصر وطارق عثمان في الكويت؟
الكوميديا لم تتوقف بصرف النظر عن التقييم النهائي للعمل، وبرز كتّاب جدد جيدون قدموا أعمالاً جيدة، لكنه يظل عملاً صعباً، وأن تصنع ضحكة أو ابتسامة للمشاهد ليس سهلاً، لا في المسرح ولا في صالة عرض الأفلام ولا صالة المنزل. في أعوام مضت، كانت مادة رمضان التلفزيونية هي الفوازير، ومسلسل تاريخي، ومسلسل كوميدي. لكن بات الأمر أكثر توسعاً مع غزارة الإنتاج وتعدد القنوات المتنافسة على عرض حصتها. شهر رمضان موسم تجتهد فيه كل القنوات التلفزيونية لعرض حزمة من الأعمال الدرامية والكوميدية والمسابقات. لذلك يجد المشاهد نفسه أمام خيارات لا حصر لها.
في السعودية ظهر مسلسل «طاش» من بطولة الفنانين ناصر القصبي وعبد الله السدحان في عام 1993، وهو مسلسل يعرض في رمضان، تكرر في ثمانية عشر موسماً رمضانياً، بواقع 29 حلقة في العام الواحد. الفكرة ممكنة لو كانت في غير رمضان، لأن الحلقات ستكون أقل، أو أن المسلسل عرض في موسم أو موسمين، لكن أن يعيش 18 موسماً فهذا شبه مستحيل. لكن ما جعل المستحيل ممكناً أن أفكار حلقات المسلسل مبنية على التغيرات الاجتماعية والثقافية، وحتى السياسية في الواقع السعودي بشكل خاص، عاماً بعد عام، ولأنَّ التغيرات كثيرة ولا تتوقف، استطاع المسلسل الصمود كل هذه الأعوام، قبل أن يتوقف في عام 2011 لأسباب خلافية.
هذه السنة عاد المسلسل بعد انقطاع، والحقيقة أنَّ الانطباع العام قبل دخول رمضان أن المسلسل لن ينجح في عودته بعد كل هذه السنوات، على الأقل هذا ما كتبه نسبة من المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي. كان الترقب كبيراً لإطلاق الأحكام القاسية على المسلسل منذ حلقته الأولى، لكنها ظهرت غاية في الإبداع من خلال رصد التحول في الواقع الاجتماعي في السعودية مقارنة بآخر إصدار من مسلسل «طاش». ولأن التحولات الاجتماعية والثقافية هائلة في السعودية خلال سنوات قليلة مضت، كان استخدامها في قالب كوميدي عملاً ذكياً، خاصة أن سياسة المسلسل هي دعوة أي كاتب لإرسال نص حلقة، أي أن أزمة السيناريست الكوميدي تجاوزها المسلسل بإتاحته الفرصة لأي كاتب كتابة حلقة وإرسالها، ثم تُدرس وتعالج من طاقم المسلسل وتظهر باسم الكاتب.
بطبيعة الحال توالت الانتقادات، وهو أمر طبيعي. البعض يرى أنَّ المسلسل عاد بقوة، وآخرون يرون أنه يكرّر نفسه. بالنسبة لي كمشاهدة، لا أفهم في الإنتاج ولا الإخراج، أكثر ما يعنيني هو سؤال واحد؛ هل لا يزال المسلسل يضحكني؟ من دون إسفاف أو ابتذال، هل يستطيع أن يجعلني أضحك وأتفاعل مع أسرتي حول فكرة الحلقة؟ هذا أهم معيار بعيداً عن أي حسابات أخرى. لا أعلم إن كان «طاش» سيستمر، لكن من الواضح أنه لا يزال يصنع الابتسامة ويثير الجدل. وعلينا أن نتذكر أن «طاش» ليس ملحمة تاريخية، بل هو وجبة خفيفة للضحك بعد الإفطار، هذا كل شيء. قيمة الكوميديا أنَّها تجعلك تشاهد المشكلة وأنت تضحك. هذه الخاصية، انتزاع الضحكة والابتسامة، تحتاج لمهارة عالية في المفردات والأداء. والحقيقة أنَّه رغم الانتقادات التي لم يتوقف «طاش» عن استقبالها منذ ظهوره، إلا أنَّه سجَّل بحسب شركات رصد نسب المشاهدة، المرتبة الأولى في المتابعة من الجمهور السعودي، مقارنة بكل البرامج والأعمال المقدمة هذا العام حتى الآن.
«طاش» متميز بكل ما يثيره من جدل ونقاش، ورفض وقبول، وتزكية وانتقاد، لكنه بالنهاية يمنحنا نصف ساعة من الاسترخاء والضحك.
7:44 دقيقه
TT
عودة «طاش»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة