آیة الله الدكتور سید مصطفی محقق داماد
أستاذ في كلیة الحقوق بجامعة الشهید بهشتي ورئیس قسم الدراسات الإسلامیة في المجمع العلمي الإيراني للعلوم
TT

لنحترم الإنسانیة

یمثل السلام، هذا المفهوم اللغوي الذي وردت الإشارة إلیه في الكثیر من اللغات والثقافات، تطلعا لا یمكن بلوغه بسهولة. وللأسف، فإننا نشهد الیوم مختلف الاعتداءات علی حرمة السلام في الكثیر من مناطق العالم المختلفة. فتعالوا معنا إذن لنحترم الإنسانیة.
لقد اکتشف المفكرون المسلمون المشكلة الأساسیة للبشریة، والأسباب الرئیسة للإخفاقات والحروب ومظاهر الدمار، ولم یمروا بها مرور الكرام فحسب، بل إن الهاجس الرئیس لهم ربما کان تقدیم طریق للبشریة لتحقیق «السلام» والاستقرار الحقیقي.
وأنا أری أن السبب الرئیس للاضطرابات والإخفاقات في عالم الیوم یكمن في داخل البشر، وما لم تتهذب صفات إشعال النیران المترسخة في داخل البشر التي قد تتأجج لأتفه الأسباب، عبر التربیة، فإنهم لن یحققوا أبدا السلام الثابت والمستدام.
ولذلك، فإنني لا أبالغ أبدا عندما أقول إن کل المشاکل التي نغصت الحیاة الجماعیة للبشریة، ناجمة في الأساس من الفراغ الأخلاقي.
ومن خلال نظرة سطحیة إلی کل الحروب الكبیرة والمدمرة، فإن بإمكاننا إثبات الادعاء السابق. إن الحروب العالمیة وکذلك ما یسمی الحروب الدینیة والقومیة التي قد تبرَّر تحت غطاء الدفاع عن المفاهیم المنطقیة في الظاهر تمتد جذورها في الغالب في الأمراض الموجودة بداخل الفرد، أو الأفراد، ویتم تبریرها من أجل إقناع الناس بها.
ویعتبر ابن خلدون الحرب المظهر الأول والطبیعي للإثارة والغضب بهدف الانتقام والتلافي، وأنها تنجم عن القاعدة القدیمة «القوة حق».
وقد کانت هذه القاعدة تعبر عن نفسها قبل تأسیس المؤسسة القضائیة، علی شكل حرب خاصة بین الأفراد وبعد ذلك علی شکل الحروب القبلیة. وبعد أن اتسع مفهوم العلاقات الدولیة تدریجیا وأطلق علی العلاقات بین الحكومات، اعتبرت الحرب بدورها علاقة بین حكومتین وکانت تعد لفترة طویلة جانبا ضروریا من العلاقات الدولیة.
ویزدحم التاریخ بالحروب والعلاقات العدائیة؛ ذلك لأن قاعدة «القوة حق» ما تزال تمثل الأسلوب لحل المشاکل والفصل في الدعاوی بینها.
وقد شرح هوغو غروسیوس في مقدمة کتابه الشهیر «حقوق الحرب والسلام» کیف أن الشعوب تتوسل بالسلاح لأسباب واهیة، أو من دون أسباب ولا تولي أي احترام للحقوق الإلهیة.
وهو یوصي الناس بأن یعتبروا حكوماتهم ملزمة بالعدالة والحقوق الطبیعیة ویقدموا هذه الحقوق باعتبارها نداء العقل السلیم والتي تثبت أن عملا ما قد منع من قبل الله وخالق الطبیعة.
لقد کان هاجس المفكرین الإسلامیین هو معرفة وجود الإنسان ومكانته في النظام التكویني باعتبارها مقدمة لتربیته. وکان السؤالان المحوریان في الفلسفة الإسلامیة: کیف هو العالم؟ وکیف یجب أن یكون الإنسان؟
وقد اعتبر الفلاسفة المسلمون الرؤیة الكونیة مقدمة للتربیة الإنسانیة. وعلی الرغم من اضطرارنا إلى الاعتراف بهذه الحقیقة المرة، وهي أن الدوافع الدینیة کانت في الكثیر من العهود التاریخیة وسیلة لإشعال الحروب بین أتباع الأدیان، فإن من الإنصاف أن نذکر أن في تعالیم الأدیان السماویة أسسا ومبادئ رائعة تثبت أن هاجس الأدیان کان بشكل رئیس هو العمل علی إیجاد الاستقرار وإزالة العداوات والأزمات الاجتماعیة.
ونحن نجد في القرآن الكریم مبادئ وتطلعات أخلاقیة؛ مثل العفو والصفح والمغفرة والرحمة والأخوة والسلام، حیث دعي المؤمنون إلی تحقیقها. کما جاءت في القرآن أسماء لله وعلی المؤمنین أن یوائموا بین أخلاقهم وسلوکهم وأسماء الله، وأن یحملوا صفات کصفات الله:
«وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم» (سورة النور، الآیة 22). «وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم» (سورة التغابن، الآیة 14).
والأجمل بین کل تلك الأسماء التي ذکرتها، «السلام» الذي یعتبر شعار المسلمین، کما أنه من أسماء الله «هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون» (سوره الحشر، الآية 23). کما أن صفتي «الرحمن» و«الرحیم» من بین صفات الله التي أُمِر المؤمنون بتردیدها یومیا.
وباختصار، فإن تعالیم الأدیان السماویة أوصت البشریة بحب السلام؛ ولكننا، وللأسف الشدید، لا یمكن أن ننكر أن المؤسسات الدینیة تحولت إلی أداة بید السلطویین فاستدرجوا الناس للحروب تحت لواء الدین.
وقد أُلزِم المسلمون، بموجب بعض الآیات في القرآن الكریم، أن یعتبروا کل من یلقي السلام علیهم أخا، علما بأن «السلام» یعني الطمأنینة والصلح والمحبة.
وبناء علی ذلك، نستنتج أن السلام؛ هذا المفهوم اللغوي الذي أشیر إلیه في الكثیر من اللغات والثقافات، هو تطلع ومثال لا یمكن الوصول إلیه بسهولة.
والیوم، نحن نشهد للأسف الأشكال المختلفة من الاعتداءات علی حرمة السلام في الكثیر من مناطق العالم المختلفة: من خلال التدخلات العسكریة والمذابح وسفك الدماء، أو قتل الرجال والنساء والأطفال في الكنائس والمساجد، بل وحتی في المستشفیات، وعبر تهدید الأطفال وحرمانهم من الالتحاق بالمدارس، ومنع وصول المساعدات الطبیة والإنسانیة إلی المحتاجین، وبواسطة ما یسمی التطهیر العرقي، ومن خلال الدعوة إلی إحراق الكتب السماویة المقدسة، والإعلام العنصري البحت والأعمال الوحشیة المتطرفة وما إلی ذلك.
* أستاذ في كلية الحقوق في جامعة الشهيد بهشتي ــ ورئيس قسم الدراسات الإسلامية في المجمع العلمي الإيراني للعلوم