د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

أزمة الدواء القاتل

شهدت شيكاغو الأميركية عام 1982 حادثة غريبة، غيرت مجرى الصناعة الدوائية، والتشريعات، والخطاب الإعلامي، والوعي المجتمعي. وذلك عندما رصدت سلطات التحقيق وفيات غامضة متتالية لمواطنين أميركيين تناولو دواء تايلينول الشهير (يشبه سمعة البانادول في بريطانيا والشرق الأوسط).
واضطرت الشركة إلى سحب نحو ثلاثين مليون علبة حول العالم تقدّر قيمتها بنحو 100 مليون دولار، وهو ما يساوي نحو ضعفي ونصف ضِعف هذا المبلغ في عصرنا. ولم تكتفِ السلطات بإعلانات الشركة الجريئة، بل شوهدت دوريات الشرطة وهي تجوب الشوارع بمكبرات الصوت تحذر الناس من تناول الدواء. ويا لها من دعاية سيئة كانت كفيلة بإفلاس الشركة. لكن ذكاء المسؤولين وتحليهم بالمسؤولية والمهنية سطر مثالاً عملياً على حسن إدارة الأزمات.
وبعد التحقيقات تبين أن أحداً قد عبث بعبوات الدواء التي لم تكن محكمة الإغلاق بطبقة القصدير الفضية، فأضاف إليها مادة السيانيد السامة ثم أعادها لاحقاً إلى الأرفف. فراح ضحيتها سبعة أشخاص. وفي أثناء التحقيقات أرسل شخصاً يدعى جيمس ويليام خطاباً إلى الشركة المصنعة جونسون آند جونسون يطالبها بتحويل بنكي لحسابه قيمته مليون دولار لإيقاف جرائم القتل التي تسبب فيها السيانيد! وبعد تمحيص المسؤولين في بصمات الخطاب، والمغلف وجهت إليه أصابع الاتهام، لكنهم لم يجدوا دليلاً قاطعاً على أنه هو من قتل أولئك الأبرياء. غير أنه أدين بتهمة الابتزاز وقضى نحو 13 عاماً خلف القضبان.
وتُذكر هذه الحادثة في أدبيات الإدارة والعلاقات العامة كمثال على حسن التعامل مع الأزمات الكبرى غير متوقعة. فقد غيرت التشريعات، والبيانات التي تكتب على المنتجات عموماً. فقد كانت معظم الأدوية عبارة عن كبسولات هشة (معبأة ويمكن فتحها) في حين تغيرت إلى الأقراص الصلبة (لا يمكن فتحها ولا حشوها). ومنذ ذلك الحين اتجهت شركات الأدوية حول العالم نحو هذه «الحبوب» البيضاء. ومرر الكونغرس الأميركي ما سُمي «بقانون تايلينول» عام 1983، الذي اعتبر العبث بمنتجات العملاء «جريمة فدرالية». وفي عام 1989، أصدرت إدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA قواعد مكتوبة للمصنعين تلزمهم بتصنيع منتجات يمنع العبث فيها.
وكم من أزمة وطنية أو سياسية أو تجارية تمر مرور الكرام ولا يستفيد منها البعض. اليابانيون بعد حروبهم الطاحنة والتي أسدل عليها الستار بعد القنبلة الذرية الأميركية قرروا التقوقع الإيجابي على ذاتهم، وإبهار العالم بجودة أعمالهم وإبداعاتهم. وكذلك الحال مع ألمانيا التي قلصت جيوشها بعد جرائم هتلر التي راح ضحيتها 50 مليون إنسان في أوروبا حتى تراجعت بعد حرب أوكرانيا بزيادة الإنفاق العسكري.
وغيّرت أوروبا وبريطانيا قوانين عديدة بعد حوادث خطيرة، منها حريق لندن الشهير عام 1666 الذي التهم نصف المدينة الجميلة وعشرات الكنائس ومباني العصور الوسطى. ثم صارت بريطانيا مضرباً للمثل في قواعد الأمن والسلامة، والمحافظة على التراث. وشقت الأنفاق في كل اتجاه لتحافظ على عراقة عاصمة الضباب لأمة عاشت 1000 عام.
الأمم والأفراد الذين لا يستفيدون من أزماتهم يطيلون أمد المعاناة. وروعة الأزمات أنها تكون رأياً عاماً ضاغطاً يتقبل التغيير مهما كان حجمه أو مرارته.