لن أكون مبالغًا لو وصفت اتفاق فيينا الخاص ببرنامج إيران النووي بالتاريخي. فبعد مفاوضات دامت عشر سنوات تقريبًا ما بين بغداد، وبرلين، وبروكسل، وإسطنبول، ومسقط، وموسكو، ونيويورك، وألماتي، وجنيف، ولوزان، إضافة إلى الاجتماعات الأخيرة لعدة مرات في فيينا، نستطيع أن نقول إننا قد حققنا إنجازا. لقد نجحنا في التوصل لحل سياسي لصراع ملتهب دفع العالم لحافة مواجهة عسكرية في الكثير من المناسبات، ووضع العالم أمام مواجهات محتملة في المستقبل.
الاتفاق الذي توصلنا إليه في فيينا جاء بمثابة الانتصار للجهد السياسي المبذول، وكذلك للمثابرة، فاتفاق فيينا سوف يكون سببًا لاستتباب الأمن في المنطقة، ولاستبعاد إمكانية استمرار إيران في مسعاها لإنتاج قنبلة نووية. فوجود نظام مسيطر ومستمر وشامل من شأنه وضع قيود صارمة على نشاطات إيران النووية.
في المقابل، سوف يُخفف الحظر متعدد الأوجه المفروض على الإيرانيين ثم يُعلّق، وفى النهاية سوف يُرفع نهائيًا، إلا أن هذا كله سوف يكون مشروطًا بالتيقن من التزام إيران بالخطوات المتفق عليها في كل مرحلة فيما يخص تقليص ومراقبة برنامجها النووي. إنني على يقين من أن حفل التوقيع الرسمي سوف يكون له عظيم الأثر في تغيير الاقتصاد الإيراني وكذلك تغيير مجتمعها، وسوف يكون بمثابة البداية لعهد جديد في العلاقات بين إيران والغرب.
وكان الرئيس روحاني قد أبدى استعدادًا ورغبة كبيرة في التفاوض والتغيير، وهو بالفعل ما شرعت فيه إيران، في ضوء ما طرحه روحاني للشعب، وكان سببًا في انتخابه عام 2013. كانت استجابة الناس واضحة، حيث طالب أغلب الإيرانيين بإبرام الاتفاق، لأنهم أرادوا رؤية ما سوف ينتج عن الاجتماع من انفتاح على الصعيدين المحلي والدولي.
من واجبنا إعطاء الزخم لمثل هذا التطور، وبث روح جديدة لعلاقاتنا مع طهران، ليس سياسيًا واقتصاديًا فحسب، بل أيضا على المستويين الثقافي والاجتماعي.
كذلك توفر اتفاقية فيينا لإيران فرصة فريدة للسير تجاه باقي دول العالم بعد سنوات من العزلة والمواجهة. يعطي الاتفاق الأمل كذلك فيما هو أبعد من فيينا، فسياسة طهران لن يكون لها خصوم بعد الآن، بل شركاء، وسوف نشهد كذلك إبرام اتفاقيات في الشرق الأوسط جميع أطرافها رابحون.
وبصيغة الاتفاق «3 + 3»، استطعنا تكوين مجموعة تفاوضية نجحت في التغلب على حالة الفشل، وفي مد جسر للتواصل بين إيران والولايات المتحدة طوال العقد الماضي، وفي الوقت نفسه إحضار لاعبين دوليين كبار للجلوس إلى جوار بعضهم لمناقشة مصالحهم الثنائية.
ربما بمقدورنا الآن الاستفادة من زخم تلك الاتفاقية التاريخية التي وقعت في فيينا لنشرع في محاولة إيقاف الصراعات الخطيرة في باقي أنحاء المنطقة.
وتبين لنا اتفاقية فيينا أن هناك متطلبين جوهريين لتحقيق ذلك الهدف، هما وحدة دول العالم والإرادة القوية للعمل للمصلحة المشتركة، وكذلك التحلي بالصبر والرغبة في الوصول لحل عن طريق اتخاذ عدد من الخطوات الجادة للتغلب على حالة انعدام الثقة ولتوظيف أفكار وأنماط نقاش مختلفة.
كان هذا هو الأسلوب نفسه الذي اتبعناه في ليبيا، حيث استطعنا خلال اجتماعنا في برلين، الشهر الماضي، أن نجمع المبعوث الخاص للأمم المتحدة مع أطراف الصراع المتحاربة على طاولة حوار واحدة.
تبدو الحاجة لمثل هذه المفاوضات أكثر إلحاحًا في سوريا، حيث تستعر الحرب الأهلية للعام الخامس من دون توقف. فاق عدد النازحين من سوريا عشرة ملايين، وبلغ عدد القتلى ربع مليون، ومع استمرار الصراع هناك يزداد تأثرنا بها، نحن الألمان، ليس فقط نتيجة لتدفق اللاجئين بمعدلات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، لكن أيضا نتيجة لانتشار الجماعات المتطرفة، مثل «داعش».
تبدو الأطراف السورية الآن متخندقة أكثر من أي وقت مضى، عسكريًا وسياسيًا، وهو الأمر الذي رآه الكثيرون في البداية ثورة سلمية ضد الاضطهاد والقمع في عز وقت ثورات الربيع العربي عام 2011، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ساحة للحرب بالوكالة لتصفية حسابات عرقية، وطائفية، وعقائدية على حساب الشعب السوري. ليس هناك حدود لقسوة الجيش السوري في دفاعه المستميت عن الأسد وعن قبضته التي يحكمها على السلطة. لم يعد هناك وقت لإبرام مصالحة بين الفلول المتصارعة وسط طوائف الشعب السوري، فقد فشلت حتى كل مساعي الأمم المتحدة لإجبار الأطراف المتصارعة على الوصول لحل سلمي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى غياب الاتفاق في مجلس الأمن وتضارب المصالح بين الولايات المتحدة وروسيا. أتمنى بصدق أن ننجح قريبًا في التغلب على كل ذلك، فحتى موسكو تستطيع أن ترى أن نظام الأسد أصبح في موقع عصيب.
دول الجوار في حاجة إلى التكاتف أيضًا، خصوصا تركيا والمملكة العربية السعودية، فمن مصلحتهما منع سوريا من الانهيار كليًا. نحتاج كذلك إلى إيران قوية بمقدورها أن تدخل وتساهم في إيجاد حل سلمي وسياسي للصراع هناك.
لن يقدر لهذا المسعى النجاح بينما يقف الأسد وبراميله المتفجرة على جانب، ويقف الجزارون المعروفون باسم «داعش» وغيره من الميليشيات على الجانب الآخر، وكلاهما يتلقى الدعم من القوى الخارجية. هناك فقط طريق وحيد لوضع نهاية لهذا المسلسل المأساوي، وهو أن تتدخل دول العالم بالحوار وبالفعل.
في الوقت الراهن، يبدو هذا الأمر بعيدًا وميؤوسًا منه، إلا أن اتفاق فيينا أظهر لنا إمكانية التوصل لحلول سلمية للصراعات، حتى وإن بدا غياب الثقة والعداء مهولاً في البداية. المهمة تبدو شاقة وتتطلب صبرًا ومثابرة، إلا أنها تستحق العناء في سبيلها.
* وزير خارجية ألمانيا