لا يمكن المزايدة على مدى تمسك مواطني دول مجلس التعاون بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وقدرتهم على الحفاظ على تعاليم الشريعة ومبادئ السنة المطهرة السمحة. والدليل على ذلك استمرار نهج الأجداد والآباء وعدم تزحزحهم عن مواقفهم الأصيلة تجاه هذا الدين العظيم، ومدى صيرورته لبناء حياة كريمة وعادلة وقويمة لهذا المجتمع، وهو أمر كان شأنه محليا لم يتدخل فيه أي أجنبي. في ذات الوقت لم يتأثر هذا المجتمع بكل الدعوات الشرقية والغربية، كما حاول البعض «تخويف» ولاة الأمر في هذه الدول منها!. إذ لا توجد لدينا خلايا ولا أحزاب لا شيوعية ولا ماركسية في الوقت الذي تلاشت فيه دعوات القومية بعد سقوطها في التجارب العربية.
في العصر الحديث، وبعد زهاء ستين عاما من تغلغل بعض «الدعاة» المؤَدلجين الحاملين لأفكار «سرية» خفية لم يعلنوا عنها في حينه!. بعد ما نالهم من إقصاء وإبعاد في بلدانهم، وبعد أن استغلوا خلو الساحة من المعلمين والموجهين في المنطقة في الخمسينات والستينات، تغلغلوا في المؤسسات التعليمية والجامعات، مُبدين قيم التسامح والطيبة والتقى، مع التأييد التام للأنظمة القائمة على مبادئ الدين والسيرة الحسنة. حيث رأت فيهم الأنظمة رادعا مهما لما كان يَشغل بالها من تقدم أوراق القوميين في السماء العربية أو «مشاغبات» بعض الحركات الشعبية المناهضة للوجود الأجنبي في المنطقة. فاستأنست الأنظمة آنذاك لليد «المخملية» واللسان «العسل» لهؤلاء المهاجرين الذين أتقنوا فن الحديث وقوة الإقناع، كما استأنس أهل البلاد الذين يحبون الخير والصلاح وكل ما من شأنه حفظ المجتمع من أي دعوات هدامة أو سلوك منحرف. واعتبروا أن هذه الجماعات تحمل راية التسامح والطيبة والقلب النقي، وهي كفيلة بحفظ المجتمع من أدران الزمن. فصار أن أيدوا تغلغلها في المؤسسات الرسمية - والتعليمية بالأخص - كون أغلب مريدي تلك الجماعات من خريجي الجامعات والأقسام الدينية فيها، بل وأصبح الأكاديميون - الذين لا ينتمون لهذه الفئة من الوعاظ المؤدلجين - مهددين بالإقصاء من مناصبهم ودورهم التنويري في مجتمعاتهم، أما الذين يؤيدون تلك الفئة فلا تطالهم يد الإقصاء، وبعضهم ما زال ينعم بالوظيفة والمنصب رغم تجاوزه الستين، التي تعتبر أقصى نهاية عمر الوظيفة الأكاديمية في بعض هذه الدول.
ولأن الدولة الحديثة بحاجة إلى التماسك الوطني وحفظ الأمن، فلقد انبرت تلك الفئة للحديث عن تلك الغايات معززة جهود الدولة في الاستقرار وحفظ الأمن، مُحذّرة في ذات الوقت من الأفكار الخارجية أو تلك التي وُضعت في دائرة المحظورات والتي تطالب بالانفتاح المجتمعي وسيادة الدولة المدنية ورفض التعصب وحسن إدارة الثروة واحترام الآخر!. ولقد لاقت تلك الجهود «مباركة» وثناءً من قبل النافذين في بعض الدول الخليجية والذين لهم حظوة عند السلطات.
وللأسف، صوّر بعض «الوعاظ» تلك الدعوات الحضارية التي حاول بعض أبناء المنطقة تقديمها لولاة الأمر أو طرحها في وسائل الإعلام على أنها «استجلاب» لقيم غربية ودخيلة على المجتمع الخليجي المسلم، وأنها ترمي إلى زعزعة الأمن و«تشويش» الفكر، فما كان من هؤلاء الوعاظ إلا أن أطلقوا تسميات كثيرة مثل: العلمانيين الكفار، أصحاب الأجندات الأجنبية، الموالين للغرب، وغيرها من المسميات البعيدة عن المنطق وروح العصر.
وما إن تغيّرت الأوضاع في بعض الدول العربية، وهبّت هبوب الربيع العربي، حتى خلع هؤلاء الوعاظ قناع التسامح والطيبة والكلمات الرشيقة الودودة، والدعوة إلى المعروف وصدق النوايا، ودخلوا المعترك السياسي متخذين وسائل الإعلام الخليجية منبرا لهم في دعم هذا الفريق السياسي وتسفيه آراء وأفكار الفريق الآخر. وزادوا على ذلك أنه أصبحوا يردّدون عبارات بعيدة عن أصول التربية - التي يعلمونها للطلبة - وعن سماحة الإسلام التي كانوا يدعون إليها، فظهرت عنهم عبارات التخوين والتكفير وتسفيه آراء من يخالفونهم، بل والتطاول على الرموز الإسلامية والمسيحية والسياسية. وأصبح التحريض ثقافة يومية لدى هؤلاء، بدلا من الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر، وبدلا من المجادلة بالتي هي أحسن وحل المشكلات القائمة عبر الحوار. ولأن لهؤلاء «الوعاظ» نصيبا من التأثير على العامة، فلقد استجاب لهم كثيرون ممن سئموا رتابة وعنف وفشل الأنظمة السابقة في بلدان الربيع العربي، ما عطل الحياة العامة في بلد مهم كمصر، وشق الوحدة بين أفراد الشعب الواحد، بل وبين المسلمين أنفسهم، وكل ذلك من أجل «الكرسي»!. وهكذا ظهر الوجه الآخر لهؤلاء «الوعاظ» الذي ظل ستين عاما متخفيا وراء عدة أقنعة.
نعم، لقد تحوّل الوعظ الديني السمح المتسامح والداعي إلى الفضيلة وحفظ المجتمع من الرذائل والانحرافات، إلى الدعوة إلى العنف وتعطيل الحياة العامة وتخريب المؤسسات، والاعتداء على حريات الآخرين ومنعهم - عبر المظاهرات - من ممارسة حياتهم الطبيعية بل والدخول والخروج إلى ومن منازلهم. وزاد من هذا العبث استغلالُ هؤلاء «الوعاظ» للمحطات الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى - مصرية أو عربية - نظرا لعلاقاتهم الوطيدة وتغلغلهم في المجتمع - لبث لغة جديدة في القاموس الإسلامي والعربي، هي لغة العنف والرفض والتخوين والتحريض على العصيان المدني، بل وتشويه سمعة الجيش المصري والتطاول على الرموز الدينية والأزهر الشريف.
يحدث كل ذلك في بعض الدول الخليجية التي عرفت الأمن والأمان، وبقيت لمئات السنين في منأى عن الآيديولوجيات المتطرفة، وتناغمت فيها العلاقة بين الحُكم والمواطنين بسلاسة وود؛ ما أوصلها على مصاف الدول المتطورة وما أورد شعوبها موارد الرخاء والاستقرار وما ضمن لأبنائها المستقبل المأمول. وما أوجد تلك العلاقة التوافقية النقية التي يحسدهم عليها الآخرون. ويبدو أن قلوب البعض الحاقد على أهل المنطقة، لم يحلُ لها أن تستمر تلك العلاقة وذاك الواقع الآمن، وتلك الطيبة والأخوة والتكاتف بين أهل الخليج.
نقول، بعد كل الذي شهدناه من أحداث وتطورات سياسية وأمنية، إن دول مجلس التعاون - ووزارات وهيئات الشؤون الإسلامية خاصة - بحاجة إلى إعادة النظر في قضية «تسيّس» الإسلام بواسطة هؤلاء «الوعاظ» الذين خرجوا عن النهج الذي ارتأته هذه الدول، وعدم السماح لجرجرة المجتمع الخليجي إلى أتون حرب لن تكون في صالح المنطقة.