فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

جنرال رابع على الدرب... ربما يصل

في مثل هذه الأيام التموزية الكثيرة القساوة على حياة اللبنانيين وكرامتهم، ولقمة عيشهم، وعملتهم المتهالكة، وعافيتهم التي لا أدوية تخفف من آلام الأبدان على أنواعها، وأحلامهم الجميلة التي أمست كوابيس وطموحاتهم التي أصبحت إحباطات... في مثل هذه الأيام التموزية قبل أربعة وستين عاماً حدث في لبنان ما كان مستبعَداً حدوثه واقتحم المجتمع السياسي قائد جيش الوطن الجنرال فؤاد شهاب، مسجلاً بأنه أول عسكري يترأس الجمهورية اللبنانية في عهدها الاستقلالي، والذي كان ما زال في ربع عهده، وجرى التفاهم على ترؤسه بتوافق من أميركا ومصر عبد الناصر وبكركي.
بعد ارتياح اللبنانيين لتوافق المثلث الأميركي - المصري - البطريركي المتفهم واختيارهم قائد الجيش ليكون الرئيس الثالث للجمهورية اللبنانية، فإنه بالقدْر نفسه سادت لدى أهل السياسة والتحزب مشاعر من الخشية والحذر لاعتبارات عدة، أبرزها أن ترئيس قائد الجيش سيصبح بعد الآن من أصول العملية الانتخابية... أي بما معناه أن جنرالاً سيورث جنرالاً، أو في أهدأ الصيغ جنرال يرث سياسياً بعد أن يكون المجتمع السياسي استعاد حظوته الترؤسية وفق تعديلات ترؤس على صيغة اختيار رئيس جمهورية لبنان.
ارتياح اللبنانيين لاختيار قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية يوم 31 يوليو (تموز) عام 1958، عائد لدوافع عدة، أبرزها أنهم ذاقوا مرارة الاحتراب الأهلي على مدى بضعة أشهر من العام 1957 والعام 1958، وكان الجيش بقيادة الجنرال فؤاد شهاب متماسكاً، أي بما معناه لم ينقسم جيوشاً على نحو ما حدث لاحقاً في السنتيْن الأخيرتيْن من رئاسة المدني سليمان فرنجية. وهذا التماسك طمأن اللبنانيين إلى أن رئيسهم لن يحكم بعقلية أهل الثكنات، وأنه في حُكم أهل السرايات سيكون على توازنه. وهذا بالفعل ما حدث، حيث إن الجنرال فؤاد شهاب مارس ست سنوات رئيساً للجهورية وهاجسه تصحيح المسارات وجعْل أهل السياسة يعيدون النظر فيما اعتادوا عليه؛ إذ إنهم كانوا يتصرفون على أساس أن الوطن ميدان وأنهم اللاعبون أو المتلاعبون، لا فرق، في حين الشعب متفرجون ومشجعون على نحو ما هي عليه طقوس مباريات كرة القدم، ويوظف أهل السياسة هؤلاء الأطياف الشعبية بما يعود على سلطانهم بالتعاظم. ولقد حقق الجنرال الرئيس في أربع سنوات ما لم يحدث أن وجده اللبنانيون في سنوات الرئيسيْن بشارة الخوري يليه كميل شمعون وريثاً بعد أزمة كادت تكتم الأنفاس. والذي جعله ينجز ما أفاد لبنان الوطن والشعب ثقة المواطن به والحرص من جانبه على احترام الآخرين، وبالذات كبار الشأنين العربي والدولي للبنان، فلا يكون صِغر مساحته مدعاة لاستصغاره. وفي هذا المنحى كان اللقاء التاريخي بالرئيس جمال عبد الناصر في خيمة نُصبت في نقطة مشترَكة من الحدود اللبنانية – السورية، وتلك لفتة جاءت من رئيس الجمهورية العربية المتحدة أضفت مسحة على السيادة اللبنانية لم تحدث من قبل، ثم حدث الأسوأ في زمن إطباق يد النظام السوري على الإرادة السياسية اللبنانية طوال ثلاث سنوات أمنية أفرزت ثلاثاً أخرى قهرية مغلفة بتركيبات حُكم ثم بمعاهدة لم تصمد لأنها غير متكافئة ومن نوعية معاهدة الترويكا السوفياتية مع مصر الساداتية لمجرد أن ووري جثمان عبد الناصر الثرى.
وبصرف النظر عما إذا كان عبد الناصر ارتأى صيغة اللقاء دعماً من جانبه لزميله في الجنرالية وتأكيداً راسخاً للسيادة اللبنانية، أو أنه رأى في صيغة لقاء الحدود ما يعفيه من زيارة لبنان؛ وذلك لأن الزيارة ستتحول إلى مبايعة شعبية لبنانية له تأخذ من هيبة رئيس البلاد الذي هو فؤاد شهاب... بصرف النظر عن التعمق في ابتكار صيغة اللقاء، فإن ما حدث أخذ مكاناً ومكانة في سجل أحداث الزمن العربي المبهر.. زمن الستينات وما بعدها بثلاثة عقود. وكان يمكن للحدث المشار إليه أن يؤسس لما هو أكثر تثبيتاً للكيان اللبناني لو أن انفصال سوريا لم يحدث ويصيب كرامة عبد الناصر في العمق، وبذلك بات غير مستحب قيام الرئيس فؤاد شهاب بزيارة دمشق أو القاهرة، وهما العاصمتان اللتان كانتا بمثابة محجة الشخصيات السياسية اللبنانية إليهما، وكانت زيارات هؤلاء في جانب منها تأخذ من رونق السيادة الوطنية.
لم يكن العهد الشهابي ملائكياً بالمطلق. ومع أن الرئيس فؤاد شهاب لا صهر عنده لكي يورثه أو ابن ليكون وريثاً ذا ظروف مواتية؛ وذلك لأنه لم ينجب وبذلك نجا عهده من أوزار صهر يتزوج ابنته، إلا أن ذلك لا يعني أن سنوات عهده خلت من الحاشية التي في حال لا يتم ضبطها فإنها تُمني صاحب العهد بالويلات. لكن حاشية العهد الشهابي كانت عسكرية أمنية مخابراتية مطعّمة ببعض رموز النخبة المثقفة الواعدة القادرين على التحليل والنأي عن المعاصي، وبذلك تبقى الأكف نظيفة. وفي ظل هذه الأجواء والمساعدين من أمنيين ومثقفين وخبراء بنى ما استطاع تشييده فبات لبنان دولة مأمونة الشبهة مهيأة لتسجيل نقاط في ماراثون التطور والتنمية. وهذه النقلة شكلت نوعاً من الحافز الشعبي لمطالبة الرئيس الجنرال بتجديد الرئاسة دورة ثانية، والتف سياسيون وزعامات حزبية حول الدعوة إلى التجديد، لكن الرئيس الجنرال الذي آلمته المحاولة الانقلابية الفاشلة من جانب ضباط الحزب السوري القومي متمثلاً باثنين من ضباط الجيش جعلته إلى جانب استحضار الذي أصاب الرئيس بشارة الخوري يرفض الاستجابة إلى التجديد، وكيف أن الشيخ بشارة الذي أصاب مجداً سياسياً كأول رئيس للبنان المستقل أضعف بشهية التجديد ذلك المجد السياسي، وأصابه الذبول المتدرج جرَّاء التأكد من رغبة التجديد فكان الحراك السياسي والشعبي الماروني والسُني والدرزي الذي أودى بذلك المجد. وعندما استحضر الرئيس الجنرال فؤاد شهاب ما جرى للرئيس بشارة الخوري وكيف كانت حاله عندما اضطربت الأحوال فاستدعاه لكي يشكّل حكومة، فإنه أبلغ الملحين عليه لتجديد الرئاسة قرار عدم التجاوب وطوى الصفحة التي بقيت مطوية حتى رحيله عزيز النفس والمقام.
ومناسبة هذا الاستحضار لما حدث للجنرال الأول رئيساً، أن ترئيس قائد الجيش أمسى صيغة كما لو أنها بند غير مدوّن في الدستور، لكن عدم تدوينه لا يلغي إدراجه لحل عندما تتعثر أحوال البلاد وعندما يقترب موعد الاستحقاق الرئاسي ولا يكون هنالك وضوح رؤية في مَن سيكون الرئيس.
ترئيس قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب كان فعل إرادة لبنانية موضع ترحيب أميركي - بطريركي - سُني وإن كان السياسي الماروني المقتدر ريمون إده المستحق المحروم ترؤس الجمهورية اعتبر في حينه أن انتخاب قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب تم في ظل الأسطول السادس الأميركي. أما أن يقول ريمون إده ذلك فمن باب المغتاظ من استمرار «الفيتو» عليه.
صيغة ترئيس الجنرالات لم تثمر استقراراً باستثناء رئاسة فؤاد شهاب. هذا عائد إلى أن إرادة التعيين لم تكن لبنانية، أو فلنقل إنها كانت لبنانية بغلاف سوري مع الجنرالات الثلاثة الذين ترأسوا البلاد بعد الجنرال فؤاد شهاب: الجنرال إميل لحود ترأس بقرار من الرئيس بشار الأسد ولو كره ذلك الزعيم السُني رفيق الحريري. الجنرال ميشال سليمان بتزكية الرئيس بشار الأسد له. الجنرال ميشال عون ترأس بعد طول انتظار بتوليفة، طرفاها: إيران والرئيس بشار الأسد، واحتضان بصيغة بوليصة تأمين ممهورة التواقيع من الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، على الصمود بأمل تصنيع الرئيس التالي صهراً تكريماً لأول رئيس من الطائفة المارونية اصطف إلى جانب المشروع الإيراني كما اصطفاف الرئيس بشَار وبقي الاصطفاف حتى الدقيقة الأخيرة من سادس سنوات الرئاسة في لبنان. ومثل هذا الأمر لم يحدث من قبل، فهل سيترسخ كتقليد.
والعلم عند الولي الفقيه المرشد الأعلى وعند الرئيس بشَّار لاحقاً... وصولاً إلى الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله. ولا مجال للاعتراض.
وسط هذا الغموض الذي يكتنف استحقاقاً يعيش تلاعبات في شأنه، كان الحديث حول ترئيس قائد الجيش وعلى نحو ما كان عليه عنصر الضرورة في زمن اختيار أول جنرال لترؤس الجمهورية، أي فؤاد شهاب. من حيث الظروف السياسية والأزمة الاقتصادية والهواجس السيادية، هنالك بعض أوجه الشبه في أمر حدث قبل أربع وستين سنة واحتمال تكراره بعد بضعة أسابيع، هذا في حال كان هنالك التزام بالدستور وما ينص عليه بالنسبة إلى انتخاب الرئيس الجديد للبلاد.
ما يتحلى به قائد الجيش الحالي، الذي بات اسمه ضمن بضعة موارنة برسم ترؤس الجمهورية، يؤهله ليكون الرئيس الحادي عشر للجمهورية اللبنانية منذ الاستقلال عام 1943 (اثنان انتخبا واغتيلا بعدما كانا أقسما وهما رينيه معوض وبشير الجميّل).
لكن ترؤسه يحمل في جانب من المفارقات التي لا تريحه ولا يرتاح لها اللبنانيون ولا حتى الأشقاء العرب، وتتعلق بمصادفة اسم العائلة، حيث سيقال على مدار الساعة الرئيس عون وكأنما ليس مَن ترأس هو الجنرال جوزف وإنما الرئيس المنصرف الجنرال ميشال وستكون السنوات الست الآتية عونية كما الست العونية المتوارية.
المهم أن يبقى لبنان كما البقاء لله.