أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

يجب أن تعلن أوروبا حرباً اقتصادية

كان من المفترض أن تكون الخطوة التالية في الصراع بين الغرب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المقاطعة الأوروبية للفحم والنفط والغاز الطبيعي الروسي، إلا أنه بدلاً عن ذلك، نواجه حظراً للغاز من جانب بوتين ضد أوروبا.
والآن، يجب على دول الاتحاد الأوروبي أن تقبل بما أنكره بعضها - خصوصاً ألمانيا والنمسا - لسنوات. ويكمن هذا الأمر في أنه من وجهة نظر حاكم مستبد مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن كل شيء سلاح حرب، ويتضمن ذلك الأسلحة النووية والكيميائية، وكذلك القمح والمعلومات المضللة، وكذلك الطاقة.
على مدى عقود، بذل بوتين قصارى جهده لجعل الدول الأوروبية تعتمد قدر الإمكان على منتجات الهيدروكربونات القادمة من سيبيريا لخلق نقاط ضعف في الغرب. والآن، يعمد بوتين إلى استغلال نقاط الضعف تلك.
منذ أبريل (نيسان)، أوقف الكرملين تدفق الغاز الطبيعي الروسي إلى قائمة متزايدة من دول الاتحاد الأوروبي التي يعتبرها بوتين معادية، أولاً بولندا وبلغاريا، ثم فنلندا وهولندا والدنمارك. والآن، يخنق بوتين الغاز المتدفق عبر «نورد ستريم»، خط الأنابيب الرابط بين روسيا بألمانيا، كما تتأثر بلدان أخرى، مثل إيطاليا. من ناحيتها، تحذر وكالة الطاقة الدولية، ومقرها باريس، من أن بوتين قد يغلق صنبور الغاز بالكامل في غضون أشهر. ومن المحتمل أن يقدم على فعل ذلك فقط لأنه يستطيع ذلك.
في الأيام المائة الأولى من الحرب، جنت روسيا أكثر من أي وقت مضى من بيع الوقود الأحفوري. أما العقوبات، فبدت من دون أدنى تأثير.
ويكمن أحد الأسباب وراء ذلك في أن الدول غير الغربية، مثل الصين والهند تتدخل لتحل محل الاتحاد الأوروبي كمشترين. ويكمن سبب آخر في أن أسعار الطاقة المرتفعة تعوض الكميات المنخفضة التي يجري بيعها في أوروبا.
وكالعادة، يغلف بوتين عدوانه بالحيل والتكتيكات. في بعض الأحيان، يلقي باللوم على المشترين لعدم الدفع بالروبل، على سبيل المثال، رغم أن ذلك غير منصوص عليه في العقود، أو بسبب مشكلات «فنية». وتزعم روسيا أن الانقطاعات في تدفق الطاقة عبر خط «نورد ستريم» بسبب مكونات مفقودة.
من جهته، أطلق رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي على هذه المزاعم الروسية ما هي عليه: «أكاذيب». أما هدف بوتين، فواضح وهو جعل دول مثل ألمانيا تستنفد صهاريج التخزين الخاصة بها بحيث يجري ملؤها جزئياً فقط عندما يصل موسم البرد في الخريف والشتاء. الواضح أن بوتين يروق له ارتفاع أسعار الطاقة الذي يسببه هذا النقص، والذي يضر بالمستهلكين الغربيين، ويسبب حالة من التوتر الاجتماعي ويشكل اختباراً لعزم الاتحاد الأوروبي.
والمؤكد أن بوتين سيكون سعيداً بشكل خاص إذا أجبر حصاره على الطاقة أجزاءً من الصناعة الأوروبية على الإغلاق ـ وهذا الأمر قد يحدث بالفعل. من جهتها، حذرت العديد من الشركات الصناعية الألمانية، في قطاعات من المواد الكيميائية إلى الفولاذ والزجاج، من أنها قد تضطر إلى الحد من الإنتاج إذا أصبحت الطاقة أعلى تكلفة أو أكثر ندرة.
في المقابل، أقدمت النمسا وهولندا والسويد والدنمارك بتفعيل خطط الطوارئ بالفعل. هذا الأسبوع، صعدت ألمانيا من المرحلة الأولى من ثلاث مراحل («الإنذار المبكر») إلى الثانية («الإنذار»). في المرحلة الثالثة («الطوارئ»)، تسيطر الحكومة سيطرة كاملة على توزيع حصص الغاز الطبيعي في البلاد. وتتجه ألمانيا وأجزاء أخرى من أوروبا نحو التقنين، الأمر الذي يعني في الواقع، اقتصاد حرب.
من جهتها، اضطرت النمسا بالفعل إلى إعادة تشغيل محطة طاقة متوقفة تعمل بالفحم (الوقود وهو أشد تلويثاً للبيئة عن الغاز). كما تشغل ألمانيا مولدات الفحم الخاصة بها. المؤكد أن هذا وضع مرير بالنسبة لبلد كان يخطط بدلاً عن ذلك للتخلي عن طاقة الفحم تماماً. وهذا أمر مؤلم بشكل خاص بالنسبة للخضر، الذين يديرون وزارة الطاقة والتجارة المشتركة، وعليهم تنفيذ هذا التحول في مسار السياسة الألمانية.
ويشكل مأزق ألمانيا رد فعل سلبياً على أخطاء السياسة المتراكمة على مدى عقود. لم يقتصر الأمر على قيام الحكومات المتعاقبة - بما في ذلك جميع الأحزاب الرئيسية الأربعة في أوقات مختلفة - بجعل نفسها تعتمد بسذاجة على خطوط الأنابيب الروسية، كما أنها تخلت سريعاً عن توليد الطاقة النووية ـ ومن المقرر إيقاف تشغيل المحطات الثلاث الأخيرة القائمة على الانشطار في ديسمبر (كانون الأول). في الواقع، تطوعت الحكومات الألمانية السابقة لتصبح رهينة طاقة في يد الرئيس بوتين.
ويجعل هذا النقاش في البلاد الآن أشد إرهاقاً. اليوم، تريد أحزاب يمين الوسط في المعارضة والحكومة الإبقاء على تشغيل المحطات النووية الثلاث المتبقية. في المقابل، لا يزال الديمقراطيون الاشتراكيون والخضر من يسار الوسط - الذين شكلت معارضة الطاقة النووية بالنسبة لهم بمثابة طوطم للأجيال - يقاومون هذه المحاولات.
وتعد مثل هذه النقاشات بمثابة دليل على أن الواقع لم ينهَر بعد بشكل كامل.
من ناحيتها، ترى الطبيبة النفسية الراحلة إليزابيث كيوبلر روس أن الناس يجب أن يتنقلوا عبر خمس مراحل من الحزن - الإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب والقبول. ويبدو الألمان، على وجه الخصوص، عالقين في المراكز الأربعة الأولى.
ويعني القبول الاستعداد الآن للحرب الاقتصادية القادمة ضد بوتين، ويعني كذلك الحصول على الوقود الأحفوري من بلدان أخرى، واستخراج الغاز من الأرض، واستيراد المزيد منه في صورة سائلة عن طريق السفن. وهذا يعني كذلك تقسيم الذرات وتركيب توربينات الرياح وما إلى غير ذلك.
لكن قبل كل شيء، يعني القبول تقليص الاستهلاك. ويجب على جميع الأوروبيين التوقف عن كونهم الجندب في حكاية إيسوب، الذي قضى الصيف في تأليف الموسيقى والمرح، ولكن بعد ذلك لم يكن لديه أي شيء في الشتاء. بدلاً عن ذلك، يجب أن يصبحوا أشبه بالنمل في القصة ذاتها - بحيث يجسدون قيم التحمل والامتناع والمحافظة والادخار.
كان الأوروبيون الغربيون محظوظين حتى الآن لأنهم لم يخوضوا حرباً بالأسلحة النارية مثل الأوكرانيين، لكنهم بالفعل مقاتلون يخوضون حرباً اقتصادية ضد بوتين. والآن، حان وقت التضحية.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»