حنا صالح
كاتب لبناني
TT

الانتخابات على وقع إعلان التفليسة!

قبل أكثر من عامين حدث التعثر وأُعلن الإفلاس يوم امتنعت حكومة حسان دياب عن سداد الديْن، سندات اليوروبوند، بالتزامن مع حجز الكارتل المصرفي أموال المودعين، وتوقف المصارف عن دفع الودائع! وكل ما أعلنه سعادة الشامي نائب رئيس حكومة «الثورة المضادة» التي يديرها «حزب الله»، هو تأكيد لواقع الحال «الدولة أفلست وكذلك مصرف لبنان والخسارة وقعت وآسف أنني أقول ذلك»!
الشامي، الذي يرأس الفريق الحكومي المفاوض مع صندوق النقد الدولي، هو أول مسؤول لبناني يقرّ بحقيقة الكارثة المنظمة، التي تسببت فيها سياسات منظومة الفساد المتسلطة على لبنان، والتي يتحكم «حزب الله» في إدارتها منذ العام 2011 بعد تشكيله حكومة «القمصان السود»، فأعلن «هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا يمكن أن نعيش في حالة إنكار»!
تلك الصراحة أحدثت دهشة لدى المسؤولين، فسارع رئيس الحكومة ميقاتي يفسر للبنانيين ما تناقلته التلفزة بالصوت والصورة ليقول، إن «ما أخذ من حديث الشامي كان مجتزأً وهو قصد بكلامه السيولة وليس الملاءة»! وأُرغم الشامي على سلسلة توضيحات، لكنه قال «من أنا لأعلن إفلاس الدولة»! أي على آخرين أن يعلنوا الحقيقة، في حين الواقع يثبت أنه منذ وقوع الكارثة تقاعسوا على كل المستويات عن أي إجراء، ولم يبادروا لاتخاذ ولو خطوة تفرمل الانهيار، بل ذهبوا إلى تكليف رياض سلامة، المتهم بتنفيذ التفليسة لأن يعالج الجريمة! فراح يبتكر هندسات مالية عبر تعاميم عن مصرف لبنان، هدفت إلى حماية الكارتل المصرفي وتنظيم نقل الثروة من الداخل إلى الخارج؛ عبر تهريب تحويلات ضخمة تعود لنافذين ومحظيين، أو من خلال التدابير التي فاقمت التهريب ما أمّن تمويلاً مزدوجاً للدويلة وميليشيات نظام بشار الأسد!
الوضوح يقتضي التذكير بأن الموجودات لدى مصرف لبنان غداة ثورة «17 تشرين» 2019 كانت تفوق الـ33 مليار دولار، تراجعت في أول أبريل (نيسان) الحالي إلى ما دون الـ11 مليار دولار! بالتزامن مع هذا التراجع، تحول لبنان إلى بلد الطوابير على محطات الوقود، وتوفي عدد من مرضى السرطان نتيجة فقدان الأدوية، وكان مرضى السرطان قد حملوا وجعهم وتظاهروا مطالبين بالعلاج من دون جدوى، كما سُجِّل موت 8 سجناء تعذر علاجهم، وعزّ الرغيف الذي يعادل 60 في المائة من وجبات عشرات ألوف العائلات، وأصاب الشلل القطاع العام وتشظى التعليم الرسمي ودخلت بعض فروع الجامعة الوطنية في موتٍ سريري، وطال التسرب الخطير القوى المسلحة، وكم هو شائن تنظيم مؤتمرات دولية لتزويد الجيش بالغذاء والكساء!
ما تقدم هو بعض من الإطار العام للسباق الانتخابي لبرلمان 2022، والموعد في 15 مايو (أيار) بعد 38 يوماً فقط! وإذا كانت المحاسبة عن اللصوصية والمنهبة ما أدى إلى تجويع البلد وتحويل اللبنانيين إلى شعب متسول، فلا يجوز أن يسقط من الإطار، أنه بعد مرور 20 شهراً على جريمة تفجير المرفأ وترميد بيروت، ما من متهم رئيسي أمام القضاء! لا، بل تم الترشيح للنيابة مجدداً فارين من وجه العدالة، ممن بحقهم مذكرة توقيف وجلب، والمدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، في خطوات جوهرها تعمد قتل الضحايا مجدداً وإعادة تفجير بيروت مرة ثانية، مع سبق الإصرار على الاحتماء بـ«الحصانات» وحماية «نظام الإفلات من العقاب» وهو الترجمة الفعلية لقانون «العفو عن جرائم الحرب»!
رسمياً، اكتمل منتصف ليل 4 أبريل تسجيل اللوائح الانتخابية التي تجاوزت المائة وبين أكثر من 700 مرشح يتنافسون على 128 مقعداً هناك 118 امرأة أكثريتهن في قوائم قوى التغيير التشرينية. وهذا الاستحقاق الذي ما زال عرضة للإجهاض، فالرئيس عون لم يوقّع بعد القانون الذي رصد التغطية المالية للانتخابات ما يؤخر الترتيبات اللوجيستية، كما أن المخاوف تزايدت من اضطرابات اجتماعية وأمنية! لكن ما تجدر الإشارة إليه، أنه للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات في لبنان، هناك مواجهة بين معارضة حقيقية ومنظومة التسلط بشقيها؛ الجهة التي يقودها «حزب الله» وتستأثر بالسلطة، والآخرون الشركاء في نظام المحاصصة.
بلورت قوى التغيير، رغم الصعوبات الناجمة عن غياب الحالات السياسية التشرينية المنظمة، لوائح مكتملة في 8 دوائر من أصل 15، وتشارك بفاعلية في 4 دوائر أخرى، وتجرأت وذهبت إلى الحد الأقصى لخوض الانتخابات في دائرتي الجنوب كما البقاع ضد الثنائي الطائفي والمذهبي، «حزب الله» وحركة أمل وحلفائهما أتباع النظام السوري. في هذه المعارك بالضبط يواجه «الحزب» ويمكن إضعافه. أما العناوين المرفوعة، فهي على مستوى الجنوب كما بيروت والشمال وكل لبنان، تتمحور حول استعادة الدولة المخطوفة ليستعاد القرار والدستور، وتحميل أطراف نظام المحاصصة المحمي ببندقية لا شرعية، المسؤولية عن الإفقار والنهب المنظم، وإذلال المواطنين، وتحويل لبنان محطة رحيل بعد إدخال أهله مع شعوب عالم «قوارب الموت»!
معروف أن «حزب الله» يتعامل مع هذا الاستحقاق، بوصفه المحطة الأخيرة، التي ستفتح الطرق أمامه لاستكمال السيطرة والتحكم وتهميش كل الآخرين، انطلاقاً مما يعتبره قدرة على إقفال «مناطقه» والتدخل بقوة حيثما كان. وعنوان معركته «الدفاع» عن تمثيل المقاومة الشعبي، من خلال الإمساك بكتلة نيابية كبيرة تحسم هوية الرئيس المقبل للبلاد، كما التحكم بأريحية بالوضع اللبناني وفق مقتضيات الأجندة الإيرانية! وبما يكرس اختطاف الدولة واقتلاع البلد وعزله وينهي لبنان الذي نعرفه بإقفال كل الأبواب لمنع انتشاله!
من أول الطريق لم يكن لدى القوى الجديدة أي وهم أن الانتخابات النيابية في ظلّ قانون غذّى المذهبية ومتصادم من الدستور وتغول الدويلة وسلاحها، يمكن أن يفضي إلى تحولٍ كامل في تكوين مجلس النواب. بل اعتبرت أن العملية محطة أساسية على طريق السعي إلى بلورة ميزان قوى سياسي بديل، وفتح الباب أمام تسريع قيام جبهة معارضة حقيقية، يمكنها أن تحمل مطالب الموجوعين المطالبين بالعدالة ومكافحة الفساد، ومحاسبة المرتكبين مهما علا شأنهم وهم أركان منظومة الإفلاس الأخلاقي والوطني.
وما حملة التخوين الشرسة التي يخوضها كل أركان «حزب الله» إلا المؤشر بأن تأبيد هذه الهيمنة لم تعد أمراً مسلّماً به، وزمن النظام الزبائني إلى أفول. وبات وصول شابات وشبان من مناخ ثورة تشرين، يحملون وجع الناس أقرب إلى التحقق، وهم لن يساوموا على الرغيف والدواء والسكن والتعليم، ودورهم سيعطل بقاء لبنان ورقة خدمة للممانعة التي تقودها طهران والتي آخر همها وضع البلد في «ممر الأفيال»! ويبقى التأكيد أن معركة التغيير لن تستهدف كل المنظومة السياسية؛ لأن القوى الطائفية التقليدية، وبعضها يقدم متأخراً عنوان السيادة، فقدت مصداقيتها. إنها قوى «التحالف الرباعي» مع «حزب الله» في العام 2005 عندما خافت تلك القيادة من شعبها، وإنها الشريكة في التسوية المشينة عام 2016 التي سلمت لـ«الحزب» ما يريد، ودورها لم يكن هامشياً في التسبب في تسريع الانهيار وأخذ البلد وأهله إلى الجحيم.