منذ ظهور بوادر الحرب في أوكرانيا، والنقاش لا يزال محتدماً حولها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في العراق وعند جيرانه. والملاحظ أن هناك تعاطفاً واضحاً واسع النطاق مع الزعيم الروسي بوتين، والمبررات التي قدّمها لخوض هذه الحرب، واستعداداً لتوجيه اللوم إلى أميركا وأوروبا وحلف شمال الأطلسي (ناتو). والذين يتخذون هذا الموقف - وإن عبّروا عن معارضتهم للحرب وسفك الدماء - فإنهم يتمنون صراحةً أن «يكسر بوتين خشم أميركا». فما هو تفسير ذلك؟
أرى أن كثيراً من الذين يؤيدون حرب بوتين في أوكرانيا ينطلقون من عداء نفسي مؤدلج وراسخ ضد أميركا والغرب، وهم ليسوا من نوع واحد، فهم يحملون طائفة واسعة من الميول والاعتقادات بدرجات مختلفة من التعصب والتشدد، تجد فيهم يساريين وعلمانيين، وتجد مؤيدي إيران، وبالتبعية يكون هؤلاء مؤيدين لبشار الأسد وبوتين، وتجد من غير هؤلاء جميعاً، ومن هو أقل اطلاعاً على تفاصيل ما يحدث، لكنه ربما نشأ على ثقافة شعارات كره الاستعمار والإمبريالية وأميركا والغرب عموماً.
والحوار مع هؤلاء صعب، وأحياناً عقيم، فغالبهم ينظرون إلى العالم بعيون نظرية المؤامرة، ويفسرون ما يجري وفقاً لمسلّمات لا تقبل الجدل، فالعالم في رأيهم تسيّره قوى خفية (رأسمالية - ماسونية – صهيونية... إلى آخره) تتحكم في الدول الكبرى وبوسائط الإعلام، وهذه القوى لها خطة محكمة طويلة الأمد، فكل ما يجري على الساحة العالمية هو فصل من فصول هذه الخطة، وأميركا هي التي تقود إدارة هذه الخطة، التي تهدف فيما تهدف إلى تدمير العراق، ومنعه من النهوض. ومن وسائل تدمير العراق «داعش» التي خلقتها أميركا لهذا الغرض. وفي اعتقادهم أن هناك اتفاقاً بين أميركا وإيران على هذا الهدف، وأن إيران وافقت كذلك على أن تلعب دور البعبع الذي يخيف دول الخليج، ما يسهل ابتزازها وبيع مزيد من الأسلحة إليها. كما يعتقدون أن أميركا هي التي استدرجت صدام حسين في السابق للهجوم على الكويت، وكان هذا جزءاً مهماً من خطة تدمير العراق، وهي اليوم قد استطاعت مع حلفائها أن تستدرج بوتين للهجوم على أوكرانيا لكي يدمروا روسيا، فينفردوا بالسيطرة على أوروبا. ولتحقيق ذلك أناطوا بالممثل الكوميدي زيلينسكي دوراً يقوم به في استثارة روسيا واستدراجها إلى اجتياح أوكرانيا، وقد أدى زيلينسكي دوره هذا بإتقان، ووقع بوتين في الفخ الذي أعِدَّ له. وعندما تسأل؛ إذا كان الأمر كذلك، لماذا يستميت الأوكرانيون في الدفاع عن أوكرانيا؟ يقولون إن هذا بأثر الدعاية الغربية والإعلام الموجه الذي غسل أدمغتهم. وهكذا إذا اصطدم اعتقادهم مع حقائق تناقضه، تُلوى الحقائق لتنسجم مع الاعتقاد، لا بالعكس، ويُنتقى من الأقوال والتصريحات ما يلائم ذلك الاعتقاد، ويُصرف النظر عما سوى ذلك.
عندما تنظر إلى هذا النمط من الاعتقادات غير القابلة للمحاججة والدحض أو التغيير، تجد فيها مشتركات وثوابت، فهي مبسطة، وفيها تفسير سهل وواضح لكل الأحداث السياسية مهما كانت خلفياتها معقدة، لذلك فهي لا تحتاج إلى إعمال الفكر وبذل الجهد في تقصي الحقائق وتفكيك الظواهر المتشابكة والخوض في تشخيص المسببات والنتائج وطبيعة العلاقات السببية. كما تنفي دور الشعوب في تحديد مصيرها والتفاعل مع الأحداث بالتأثر بها والتأثير فيها من خلال المصالح المتداخلة التي تعمل في شرائحها ومستوى وعيها ونوع قياداتها والأنظمة السياسية التي تحكمها. كل ذلك ليس له دور يذكر في رأي هؤلاء، فالأحداث تجري وفقاً لتلك الخطة التي ذكرناها. هذا الاعتقاد مريح جداً، ليس فقط لأنه سهل، لكنه أيضاً يرفع المسؤولية عن حامله، فإذا لم يكن له دور، فكيف تقع عليه المسؤولية؟
القوانين التي تتحكم في التفاعل بين البشر، أفراداً كانوا أو مجاميع أو دولاً، أكثر تعقيداً بكثير من القوانين التي تتحكم في المادة في الطبيعة. ونحن نرى في الفيزياء أن العلماء جهدوا منذ مئات السنين، بل آلاف السنين، ليكتشفوا ويطوروا قوانين الفيزياء، فقد جاء إسحاق نيوتن بنظرية الحركة التي فسّر بموجبها حركة الأجسام والكواكب، ثم جاء ألبرت إنشتاين بنظريته النسبية ليفسر الظواهر في الأبعاد الفلكية الشاسعة، ثم أتت بعد ذلك نظرية الكم (Quantum theory) التي فسرت الظواهر التي تحصل في مسافات متناهية الصغر في داخل الذرة وأجزائها. والبحث مستمر لتوحيد هذه النظريات والتوصل إلى قوانين تنطبق على كل الأبعاد، فتكون كما يسمونها «نظرية كل شيء» أو «The theory of everything»، وهذا البحث لا يزال مستمراً، ولم يتوصل إلى «نظرية كل شيء» رغم السعي الدؤوب لأكثر العقول تأهيلاً ونبوغاً.
أما في مجال السياسة، التي هي كما قلنا أكثر تعقيداً من الفيزياء، فالعجيب أن البعض قد توصل إلى «نظرية كل شيء» بلا جهد يذكر! كل ما في الأمر أن تتبنى بضعة افتراضات بسيطة تعتبرها بديهية، ثم تفسر كل الظواهر السياسية بموجبها، وانتهينا. وهذا هو غاية الجهل بالجهل. وهو بلا شك دلالة على القصور في الإدراك وقلة أدوات التحليل والكسل الفكري. وهو نمط من التفكير المسطح يؤدي إلى الوقوع في أخطاء قاتلة وعدم التمكن من تجاوزها وحل عقدها واستحالة إنتاج أنظمة جديدة تفتح الباب للتقدم والرقي.
نظرية المؤامرة ليست حكراً على العراقيين والعرب. فهي شائعة جداً في العالم، لأنها تستجيب لحاجة بشرية، فنجدها على سبيل المثال في قطاع كبير من الساحة السياسية الأميركية، وبالتحديد الجناح التابع للرئيس السابق دونالد ترمب من الحزب الجمهوري، وهو حالياً الجناح الغالب. والمؤمنون بها يعتقدون أن الانتخابات الأميركية الأخيرة كانت مزورة، وأن الفائز الحقيقي كان ترمب، وأن الذي يسيطر على الدولة الأميركية هم مجموعة تمثل الدولة العميقة، وتتألف من سياسيين مثل هيلاري كلينتون وجو بايدن والرئيسة الحالية لمجلس العموم نانسي بيلوسي وديمقراطيين آخرين، وهم جميعاً أعضاء في عصابة سرية تتاجر بالأطفال وتمتص الدماء وتعبد الشيطان، ولا بد من القضاء عليها ولو بالعنف وتخليص الولايات المتحدة من شرورها. وكلنا قد شهد ما حصل في 6 يناير (كانون الثاني) 2021 عندما هاجم آلاف من المحتجين على نتائج الانتخابات مبنى الكونغرس، ونادوا بقتل نانسي بيلوسي، حتى نائب رئيس الجمهورية مايك بنس.
فما العوامل المشتركة بين المؤمنين بنظرية المؤامرة من الأميركان والعراقيين وغيرهم؟
بتقديري، العوامل المشتركة تتضمن عدم الرضا عن الحالة التي يعيشونها وعدم القدرة على فهم ما يجري ويدور حولهم، ما يولّد لديهم الشعور بالعجز والضياع والخوف من المستقبل والغضب، فلا بد لهم من تفسيرٍ يتبنونه ليتكون لديهم اليقين الذي يحتاجون إليه لكي يعيد إلى أنفسهم حالة من التوازن النفسي والاستقرار.
ولكل مجتمع الدوافع التي تدفع شريحة منه إلى هذا التوجه، ففي حالة العراق هناك تراث فكري واجتماعي وثقافي قائم على تعظيم الأمجاد الغابرة، ومقابلتها بالفشل والبؤس اليومي الذي تكابده الأكثرية الغالبة في المجتمع، الذي يذكيه ويعززه الفشل القومي وحالة الاندحار والمذلة أمام انتصارات الصهيونية، مدعومة بالولايات المتحدة، والمقارنة التي لا يمكن إلا أن تُعقد بأمم كانت مثلنا، قبل أن نعود إلى ما نشاهده في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو مرآة للمجتمع بمستوياته المختلفة، نرى - كما قلنا - نظرية المؤامرة مستشرية بين من يعتبرون أنفسهم من النخب، أما الذين هم دونهم تعليماً واطلاعاً فحدِّث ولا حرج، فهم يعيشون في عالم الخرافة والظلام، وهناك طبقة من الطفيليين داخل المجتمع يتكسبون من ممارسة التجهيل بشكل منظم، تؤيدهم من خارج الحدود جهات لها مصلحة في إبقاء الجميع على هذا الحال.
وأخيراً، علينا أن نقول إن تفنيد «نظرية المؤامرة» لا ينفي وجود نوايا وأهداف وخطط في عالم السياسة، لأن الدول والفاعلين السياسيين يضعون لأنفسهم أهدافاً استراتيجية طويلة الأمد، وأخرى مرحلية، ويرسمون السياسات والخطط لتحقيقها، وبعض تفاصيل هذه الخطط تكون سرية ويجب التعامل معها بواقعية وفي إطار فهم أهداف تلك الجهات وقراءة نواياها، ومن ثم استباق إجراءاتها وتحركاتها، ولكل دولة أجهزة تقوم بهذه المهمة، ولا يصار إلى اللجوء إلى تفسير كل حدث بأنه مؤامرة، وفق «نظرية كل شيء».
7:44 دقيقه
TT
أوكرانيا ونظرية المؤامرة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة