من الأمراض التي استحوذت على اهتمام عالمي كبير في مطلع هذا القرن، هو مرض متلازمة نقص المناعة المكتسب، أو الإيدز، لما كان لهذا المرض من تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية وطبية كل في آن واحد. تم التعرف على هذه المتلازمة سنة 1981 عندما أُصيب عدد متزايد من الأفراد بأعراض مرَضِية ذات معالم جديدة على المجتمع الطبي، من التهابات حادة إلى أورام نادرة وخبيثة مجتمعة في المريض الواحد بسبب قدرة الفيروس المسبب لهذه المتلازمة على إحداث خلل في مناعة الإنسان.
وبسبب عدم وجود علاج أو لقاح، عانى مرضى الإيدز من التقدم السريع في أعراض المرض وتبعات تنهك جهاز المناعة. ولسنوات طويلة، وحتى تم اكتشاف علاجات آمنة وفعالة، كانت الوفاة هي القدر المحتوم لكل مصاب. لم تسلم دولة من هذا المرض، ولكن استطاعت الدول عالية الدخل توفير العلاج وسبل للوقاية حدَّت بشكل كبير من استمرارية التزايد في عدد الحالات والوفيات. إلى الآن، هناك ما لا يقل عن 85 مليون شخص مصاب وأكثر من 35 مليون حالة وفاة من مرض الإيدز.
قدّم جاك بيبن في كتابه «أصول الإيدز» تحليلاً وافياً عن نظريات خروج هذا الفيروس من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان في وسط القارة الأفريقية. وأوضح دور الممارسات البشرية في تحفيز انتقال الفيروس وتمكّنه من البشر. وبعد سنوات عدة من اكتشاف الحالات الأولى لمتلازمة نقص المناعة المكتسب في سنة 1987، كان أول بارق أمل لمرضى الإيدز بصدور نتائج بحث علمي عن فاعلية ومأمونية دواء «إي. زي. تي» كأول علاج يثبِّط تكاثر الفيروس في الإنسان. لم ينجح هذا الدواء منفرداً في علاج الإيدز بسبب سرعة مقاومة الفيروس للدواء. تتابعت الدراسات العلمية، وفي أوائل التسعينات، تم اكتشاف عدة علاجات جديدة ضد فيروس الإيدز أثبتت فاعليتها عند الاستخدام كمجموعة وليست منفردة، ما خفّض احتمالية مقاومة الفيروس للعلاج.
تحول مرض الإيدز، لمن حظي بتلقي هذا العلاج المُكلِّف، من مرض معدٍ حاد إلى مرض مزمن يمكن التعايش معه. لعل التطور السريع في إيجاد لقاح لفيروس «سارس - كوف – 2»، المسبب لجائحة «كوفيد – 19»، واستخدام التقنية الجديدة المعروفة بالـ«مسنجر آر. إن. آي» (mrRNA) سيتيحان فرصة جديدة لتطوير لقاح آمن وفعال ضد فيروس «الإيدز».
ولكن دعونا ننظر إلى بعض من تداعيات هذا الوباء، وبالذات في السنوات الأولى لاكتشاف المرض. ذكرت تقارير البنوك العالمية أن الإيدز استهلك أكثر من 40 في المائة من ميزانية تنزانيا الصحية، وتجاوزت هذه النسبة 65 في المائة في رواندا. على المستوى الفردي، أدت جائحة الإيدز إلى الوفاة المبكرة، خاصة بين الذكور. في زامبيا، على سبيل المثال، زادت نسبة الوفيات بين فئة العمال خمسة إلى ثمانية أضعاف كنتيجة مباشرة لمرض الإيدز، وبلغت نسبة المرض بين معلمي المدارس في أواخر التسعينات 30 في المائة تقريباً. تكررت هذه المعدلات العالية في بلدان أخرى وفي صناعات ومهن أخرى، وبالتالي انخفضت القوة العاملة في هذه الدول، ما أثر سلباً، بشكل مباشر أو غير مباشر، على اقتصاد الدولة ورفاهية مواطنيها.
امتناع كثير من المستثمرين الدوليين عن وضع رؤوس أموالهم في مجتمعات غير مستقرة اقتصادياً وغير منتجة لأنها غالباً دول غير مستقرة سياسياً كان شيئاً بديهياً. ويُعد حجم الاستثمارات الأجنبية في الدولة مؤشراً لاستقرار وازدهار هذه الدولة، وبالتالي التحكم والحد من الأمراض المعدية، بالذات تلك الأمراض التي تؤثر سلباً على إنتاجية المواطن. ويمكن أن يكون ذلك حافزاً لرؤساء الدول لإيلاء الاهتمام المناسب للصحة بشكل عام، والحد من الأمراض المستوطنة بشكل خاص. وللأسف، وبسبب جائحة كوفيد وتأثيرها السلبي على النُّظم الصحية الهشّة، فقد رجعت كثير من الدول ما لا يقل عن 10 سنوات إلى الوراء لأي تقدم مُحرَز في البرامج العلاجية والوقائية للإيدز في العقود الأربعة الماضية. ومن الممكن القول إن هذا ينطبق على عدة برامج صحية أخرى مثل الملاريا والدرن، وليست حصراً على البرامج الخاصة بالإيدز.
الوصول إلى الأهداف التنموية المستدامة، التي وضعتها الأمم المتحدة، بحلول 2030 ستتطلب تعاوناً دولياً وإيمان أصحاب القرار بأن الاستثمار في الصحة العامة مهم ليس فقط للصحة وإنما للاقتصاد والأمن الدولي. وللبحث صلة.
- خبيرة الأمراض المُعدية والأوبئة
TT
تحدي الاستثمار في الصحة العامة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة