ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

المقهى باعتباره رمزاً ثقافياً...!

في قريتي، التي أصبحت بين البحر والنخل مدينة واسعة، جاءتها المقاهي مع العمال اليمنيين في بواكير الطفرة النفطية في السبعينات. كان عدد قليل من المقاهي ينمو على حافة القرية كاستراحة للعمال، وكانت العائلات المحافظة تحذر أولادها من ارتياد هذا المكان «الـمشبوه». اجتمع في المقهى جميع «الموبقات» آنذاك: التجمع، وشرب الدخان (الأرجيلة)، ولعب الورق والشطرنج والنرد، وتاج تلك الموبقات جميعاً: التلفزيون!
في تلك القرية؛ هناك اليوم أكثر من ثلاثين مقهى بطرز فاخرة، تتوزع بين الأحياء السكنية، ويرتادها في الصباح والمساء مئات الشباب والفتيات، وبعضهم أصبح يعقد اجتماعاً أو يكمل عملاً أو يقرأ كتاباً في المقهى. هذه واحدة من صور التحول الثقافي.
ارتبطت القهوة بالخمر، حتى قبل أن يعرفها العرب في القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي. أبو نواس ذكرها ككنية عن المشروب المسكر:
يا خاطبَ القهوة الصهباءِ، يا مَهُرها
بالرطلِ يأخذ منها مِلأَه ذهبا
قصرْتَ بالراح، فاحْذَرْ أن تُسمِعها
فيحلِفَ الكرْمُ أن لا يحملَ العنبَا
وكذلك قال أبو تمام، وقيل «ديك الجن»:
وقهوة كوكبها يزهرُ يَسطَعُ مِنها المِسكُ والعَنبرُ
وردية يحثها شادنٌ كأنها مِنْ خَدهِ تعصرُ
ابن المعتز ذكرها تعبيراً عن الخمرة أيضاً:
داوِ الهُمومَ بِقَهوَة صَفراءِ وَاِمزُج بِنارِ الراحِ نورَ الماءِ
ما غَركُم مِنها تَقادُمُ عهدها في الدَن غَيرَ حُشاشَة صَفراءِ
ما زالَ يَصقُلُها الزَمانُ بِكَرهِ وَيَزيدُها مِن رِقة وَصَفاءِ
أما أبو عبد الله الحسين بن أحمد الكاتب، فيجاهر بهذه العلاقة مباشرة:
قوما اسقياني قهوة رومية
من عهد قيصر دنها لم يمسسِ
صِرفاً تضيف إذا تسلط حكمها
موت العقول إلى حياة الأنفس
لذلك، حين أرسل ناظرُ الحسبة في مكة، خاير بك المعمار، تقريره للسلطان المملوكي قانصوه الغوري، واصفاً أناساً يتجمعون بالقرب من الحرم في حلقة صوفية بمناسبة مولد النبي، ومعهم «شيئاً يتعاطونه على هيئة الشرَبة الذين يتعاطون المسكر، ومعهم كأس يديرونه ويتداولونه بينهم»، أصدر الغوري مرسوماً وصف القهوة بأنها على «هيئة المسكر يشربها أصحاب الكيف، مصحوبة بطقوس قريبة مما يجري في الخمارات»، ثم منعها وكلف عامله بمصادرة البن والقهوة من الأسواق وحرقها ومعاقبة من يتعاطاها... وهكذا أصبح أهل مكة يتداولون القهوة بالسر.
ارتبطت القهوة بالصوفية، وينسب اكتشافها لأحد شيوخ الطريقة الشاذلية، وكان للصوفيين في اليمن والحجاز غرام خاص بالقهوة، حتى إن الجزائريين يطلقون على القهوة اسم «شاذلية» نسبة إلى الشاذلي. بهذا المعنى يقول الشاعر السعودي الراحل محمد الثبيتي في «تغريبة القوافل والمطر»:
«أَدِرْ مُهْجَة الصُبْحِ/ صُبَ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ/ يُدِيرُ الرُؤُوسْ/ وزِدْنَا مِنَ الشَاذِلِيَة حتَى تَفِيءَ السَحَابَة/ أَدِرْ مُهْجَة الصبح/ واسكبْ على قلل القوم قهوتَك المرة المُستطابة».
حتى في أوروبا كانت محرمة... لكونها تمثل رمزاً شرقياً إسلامياً... يخبرنا سعيد السريحي في كتابه «غواية الاسم... سيرة القهوة وخطاب التحريم» إن رئيس أساقفة كانتربري وقع سنة 1637 مذكرة إلى مجلس العموم البريطاني، طالب فيها بتحريم القهوة، وباتت حبوب البن آنذاك تُعرف باسم «حبة محمد»، ظلت هذه الفتوى المسيحية حتى أبطلها البابا كليمنت الثامن، الذي أعجب بها، وقال: «مشروب الشيطان هذا لذيذ للغاية، يجب علينا خداع الشيطان من خلال تعميده!».
ربما كان العرب من اكتشفوا القهوة. لكن المقهى أخذ طابعه في الغرب وأصبح المقهى رمزاً ثقافياً في أوروبا، كمكان للتجمعات المدنية، يتم فيها الحديث والنقاش والحوار، وتنبثق منها الأفكار والتيارات والحركات، يلتقي هناك: أصحاب الأعمال، والمثقفون والإعلاميون (بواكير الصحافة العالمية ووكالات الأنباء نشأت في المقاهي)، والتنويريون كما في فرنسا كانوا يجدون في المقهى مكاناً لنقاشاتهم، وكذلك الشعراء والأدباء والفنانون... وقريب من هذه التجارب شهدتها المقاهي في مصر وتركيا.
ومع إعلان وزارة الثقافة السعودية تسمية عام 2022 بـ«عام القهوة السعودية» للاحتفاء بهذا العنصر الثقافي، تعود القهوة كرمز للثقافة والهوية، وعادات وتقاليد المجتمع في الضيافة، وأيضاً كمكان يلتقي فيه الشباب للتعبير عن آرائهم وأفكارهم وتطلعاتهم، مكان حر ومدني لا يرتبط بوصاية أحد، وخالٍ من قدسية المكان أو رمزية الزمان...