فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

يخافون الشعراء أكثر من «الشيطان الأكبر»

نعم، إنهم يقتلون الشعراء. إنهم ينحرون الشعر في وضح النهار ونحن صامتون. الشعراء والكتاب، شرقا وغربا، صامتون. نعم، إنهم يعلقون الشعراء فوق أعواد المشانق في أمة صاغ الشعراء نجمتها الأكثر سطوعا في كل تاريخها البهي حتى حاضرها الكئيب، وكانوا في القلب من حضارتها الكبرى، بل هم قلبها. نعم، إنهم يقتلون الشعراء في أمة حافظ والرومي وسعدي والعطار والخيام.
لم يكد يمر أسبوعان فقط على إعدام شاعر الأحواز هاشم شعباني، الذي لم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره، وزميله هادي رشيد، بالتهم الجاهزة أبدا: «نشر الفساد في الأرض»، «خوض حرب ضد الله»، «التشكيك في مبدأ ولاية الفقيه»، حتى أعدم شاعر آخر هو خسرو برهوي، واختفى شاعر ثالث لم يعرف أحد لحد الآن مصيره، وهو حسن فوماني. وقبل ذلك، خطفوا الشاعر سعيد سلطان في يوم زواجه، ثم صفوه، لاحقا، في سجن ضائع بطهران. وفي عهد رفسنجاني، كما ذكر الكاتب والصحافي الإيراني الزميل أمير طاهري في مقال له في هذه الصفحة، الأسبوع الماضي، فشلت محاولة تصفية شعراء كثيرين كانوا متجهين لحضور مهرجان في أرمينيا. وحسب المقال نفسه، حصلت أسوأ حالات القتل في عهد خاتمي، إذ قُتل أكثر من 800 مثقف بينهم محمد مختاري، وجعفر بوياندا، اللذان قتلهما عملاء الحكومة.
إنها، إذن، عملية ممنهجة، لا تتعلق بهذا الحاكم أو ذاك، «إصلاحيا» كان - كم نحن سذج أحيانا - أم محافظا، ولا بهذه الفترة الزمنية أو تلك، بل إنها متأصلة في طبيعة النظام نفسه، وتشكل جوهر وجوده. فأكثر ما يخشاه هذا النظام، كأي نظام ديكتاتوري آخر، هو إنسان حر، قادر على قول «لا» حتى لو كانت صغيرة ضائعة في ثنايا قصيدة حب.
أي خطر يشكله شعراء ناحلون، شاحبون من فرط الرقة والحب على هذا النظام؟ ماذا كان يملك شعباني وسلطان وفوماني من قوى خارقة لـ«يخوضوا حربا ضد الله» و«ينشروا الفساد في الأرض»؟
الطغاة يخافون الكلمات. إنهم يدركون حتى بغريزتهم أن ما يشكل الخطر الأكبر عليهم هو الكلمات، التي تتحول إلى قوة مادية هائلة إذا امتلكها الناس. إنها باقية وهم زائلون، وهي تجدد نفسها مع كل قارئ جديد حتى بعد قرون. وها نحن نرى أن الخيام وحافظ والرومي وسعدي والعطار، كغيرهم من الشعراء المجيدين في كل الأمم، يتجددون دائما، عابرين الزمن والقارات. وستبقى كلمات أحفادهم الشعراء أيضا، شعباني وزملائه، وستصل على الرغم من السجن والقتل، كما وصلت قصيدة شعباني الأخيرة «سبعة أسباب تكفي لقتلي» من سجن مجهول العنوان في الأحواز، وسرعان ما تلقفها الناس البسطاء.
ولكن من المؤلم أنهم يُقتلون بصمت. لم نسمع، لحد الآن، أصواتا مستنكرة لمجزرة الشعراء هذه، وكأن العالم، المشغول بالأسلحة النووية والكيماوية، متواطئ بالصمت، بل هو متواطئ بالصمت. يبدو أنه عصر الفرجة على القتل من حلب إلى طهران. ولماذا سيكترثون؟ فقد تغيرت الأولويات.. لم يعد «الشيطان الأكبر» عدوهم الذي لا عدو له، بل ملاك الشعر الأبيض، الذي لا يستطيع حتى أن يهزم نملة.
إنهم في الحق يخافون الشعراء أكثر مما يخافون الشيطان الأكبر.
أصحاب الكلمة يُقتلون منذ فجر التاريخ، ولكنهم باقون عبر التاريخ. وهي حقيقة لا يفهمها الطغاة.. لا يريدون أن يفهموها!