نيال فيرغسون
كاتب من خدمة بلومبيرغ. أستاذ للتاريخ المعاصر في جامعة ستانفورد الأميركية
TT

عالمنا اليوم... كوارث ووباء وأزمات وفوضى

غنّت جودي غارلاند لميكي روني في عام 1938: «إنها لا تمطر أبداً، لكن ما هذا الذي ينهمر؟»، ووصفها لا يفارق الذاكرة ما سيحدث «إذا حدث أن هجرتك سيدة الحظ».
كل ما سردته الأغنية واقعي إلى حد بعيد، إذ لا يمكن للإنسانية المعذّبة الحصول على قسط من الراحة هذه الأيام. لم تكد تنحسر جائحة «كوفيد - 19» حتى اجتاح «متحور دلتا» الجديد العالم، وهو الأكثر عدوى بكثير من النسخ السابقة من الفيروس. في الوقت نفسه، حدثت فيضانات كارثية في «راينلاند» بأوروبا ومقاطعة «خنان» الصينية. كذلك اشتعلت حرائق الغابات الهائلة في سيبيريا وةلاية أوريغون بالولايات المتحدة. وفي سلسلة من البلدان - أفغانستان وكوبا وهايتي، على سبيل المثال لا الحصر – بات النظام السياسي مهدداً بالانهيار.
إن فكرة زمن الاضطرابات – وهي عندما يسير كل شيء في الطريق الخطأ - متجذرة بعمق في الخيال البشري.
في عصرنا الحالي، نبحث عن معانٍ مماثلة في الأوقات العصيبة. الاستنتاج الواضح من صور السيارات التي تحولت إلى حطام بسبب الأمطار الغزيرة في أماكن بعيدة مثل «كروزبرغ» و«تشنغتشو» هو أننا بحاجة إلى أن نكون أكثر جدية بشأن تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. لكن هناك ما هو أكثر من ذلك لكل هذا الضيق الذي نعيشه.
ظاهرياً، كان في العبارة التي اشتهر بها ليمون سنيكيت، كل ذلك لم يكن سوى «سلسلة من الأحداث المؤسفة» – أو بالأحرى سلسلة مصادفات سيئة للغاية أن تحدث الموجة الأخيرة من الجائحة في نفس الوقت الذي يحدث فيه الكثير من الأحداث الجوية المضطربة وموجة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فإن التدقيق في الأمر يمكّننا من أن نرى أن هناك روابط بين هذه الكوارث وأنها في الواقع أجزاء من اتجاهات متشابكة.
يبدو كما لو أن العالم يصطدم بالسقف كما يقولون. ويبدو، بالنظر إلى القيود المفروضة على تقنيات الطاقة الحالية لدينا، لا يمكننا دعم أكثر من عدد سكاننا الحالي البالغ 7.9 مليار إنسان من دون زعزعة استقرار الكوكب، على الرغم من مشاريع الأمم المتحدة التي ستفيد 10.9 مليار إنسات بحلول نهاية القرن، لكنى أشك في ذلك. وكأن الغرض هو الحد من أعدادنا، فقد خلق التقدم التكنولوجي والتوسع الديموغرافي لدينا ظروفاً مثالية لكوارث كبيرة تقصّر العمر.
إن توسع المستوطنات البشرية على وجه التحديد هو الذي زاد من احتمال ظهور أمراض حيوانية جديدة. فتطور السفر الجوي الدولي تحديداً هو الذي زاد من احتمال انتشار الأوبئة، وكانت الطريقة التي فرضنا بها قيوداً على الأنهار الرئيسية ببناء السدود والضفاف الصلبة هي ما زاد من احتمالية حدوث فيضانات كارثية، بعيداً عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي لا تزال في تزايد.
هذا لا يعني أننا لا نستطيع التغلب على هذه المشكلات. فالتاريخ يوحي بأننا نستطيع. فقد أصبح عدد السكان الأوروبيين بحلول القرن الثالث عشر أكبر من اللازم بالنسبة للتقنيات الأساسية لتلك الحقبة، في وقت كان عدد سكان العالم يزيد قليلاً على 390 مليون نسمة. ومع انخراط معظم الناس في زراعة الكفاف، لم يستغرق الأمر الكثير -سلسلة من السنوات السيئة والطقس السيئ وسوء المحاصيل- لجعل السكان أكثر عُرضة لوباء الطاعون الدبلي.
بدأ عدد سكان إنجلترا في الانخفاض قبل أن يضرب الموت الأسود العالم في أربعينات القرن الرابع عشر. وأدى الجمع بين خيبات الأمل المناخية ومسببات الأمراض الجديدة إلى كارثة ديموغرافية. وأطلق الطاعون بعد ذلك العنان لنوع من التعاقبات، حيث أدى الموت الجماعي إلى اضطراب اقتصادي واجتماعي، مما أدى بدوره إلى اضطرابات دينية وسياسية.
في هذه المرحلة ننتقل من المصادفة إلى السببية. ففي محاولة عبثية لدرء مزيد من الانتقام الإلهي، تجوّل آلاف الرجال الأوروبيين من مدينة إلى أخرى كجلادين، وجلدوا أنفسهم في أعمال كفارة جماعية. في الوقت نفسه، في كثير من المدن -خصوصاً في ألمانيا- انقلبت المجتمعات المسيحية على الأقلية اليهودية التي تحملت اللوم على الطاعون.
أدى الموت الأسود إلى زعزعة استقرار المجتمع الأوروبي بشكل أساسي. وأدى الانخفاض الحاد في عدد السكان إلى نقص في اليد العاملة، مما أدى بدوره إلى محاولات من الملاك والدولة لإلزام الفلاحين بالأرض بشكل أكثر صرامة. في إنجلترا، عجّلت هذه الإجراءات في النهاية بثورة الفلاحين عام 1381.
كما في عصرنا الحالي، تنافس الطاعون والحرب لتقصير العمر. ليس من السهل شن حرب في زمن الوباء، ولكن بطريقة ما نجح الإنجليز والفرنسيون في ذلك. وعلى مدى الأعوام المائة التالية، اشتبكت الممالك المتحاربة في البر والبحر، وتلاشت جهود الاستيلاء على الأراضي بعضها من بعض بشكل عام عندما ساءت جيوشها لدرجة أنها لا تستطيع مواصلة القتال. وتكررت نفس القصة في إيطاليا.
نحن لم نتخطّ هؤلاء الناس بـ700 عام فقط، فقد حققنا اكتشافات علمية لا حصر لها. ومع ذلك، فإن تجربتنا تشبه تجربتهم بطريقة غريبة. فموجات الوباء تتزامن مع الطقس القاسي، ثم تتسبب هذه الكوارث الطبيعية في حدوث أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وكما هو متوقع، فإن بعض أضعف دول العالم كانت أول من استسلم لهذا النوع من العدوى. ومع نية الولايات المتحدة إعادة إنتاج فيلم «سايغون 1975» في كابل، غرقت أفغانستان مرة أخرى تحت حكم «طالبان»، وهو نظام ثيوقراطي ذو رؤية للنظام الاجتماعي يعود تاريخه إلى أبعد من الموت الأسود.
كوبا، واحدة من آخر الديكتاتوريات الشيوعية المتبقية من النوع القديم، تتأرجح على حافة الانهيار محرومة من عائدات السياحة التي أبقت اقتصادها على قدميه وتماسكه (مثل نظيرتها في شمال أوروبا الباردة، بيلاروسيا) من خلال القمع الغاشم. وهايتي، مستنقع الفوضى والفقر الذي كان بالكاد نظام حكم في السابق، انزلقت الآن في فوضى عارمة بعد اغتيال رئيسها، جوفينيل مويس. وميانمار على شفا حرب أهلية في أعقاب الانقلاب العسكري.
البلدان الفقيرة الأخرى سوف تسير في نفس الاتجاه. فقد عانى نحو 155 مليون شخص في 55 دولة من نقص حاد في الغذاء أو مجاعة كاملة في عام 2020، وفقاً للتقرير العالمي للأزمات الغذائية لعام 2021 بزيادة قدرها 20 مليوناً مقارنةً بعام 2019. جمهورية الكونغو الديمقراطية واليمن من بين الدول التي تلقت الضربات الأقوى. أحدث مؤشر للسلام العالمي، الذي نشره معهد الاقتصاد والسلام، صنف أذربيجان، وبيلاروسيا، وبوركينا فاسو، وهندوراس، وزامبيا على أنها «البلدان الخمسة الأكثر تدهوراً» من حيث الاستقرار السياسي.
ومع ذلك، فإن هذه العدوى من الوباء إلى الفوضى السياسية لا تقتصر على أكثر دول العالم بؤساً، إذ تشير التقديرات إلى حدوث زيادة بنسبة 10% في المظاهرات العنيفة في عام 2020 مقارنةً بالعام السابق، وتدهورت حالة عدم الاستقرار السياسي في 46 دولة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»