حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

الخروج من بيروت

استمر احتضار بيروت نحو نصف القرن. بدأ مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ووصل إلى نهايته المشؤومة والمنتظرة مع انفجار الرابع من أغسطس (آب) من العام الماضي. محطات عدة أرّخت لموت المدينة وخسارتها ما تميزت به عن نظيراتها العربيات؛ من اختيارها ساحة للحروب العربية – العربية والعربية – الإسرائيلية وصولاً إلى إخفاق اللبنانيين في إنتاج طبقة سياسية تدير انتقال لبنان إلى مرحلة السلم الأهلي.
انحدار العاصمة اللبنانية وفقدانها كل أدوارها يُكثفان المصير الذي انتهى إليه البلد. وهي في وضعها المزري الحالي تتحمل ربما أكثر من باقي أنحاء لبنان (باستثناء طرابلس على الأرجح) عبء الأزمات التي دمرت الاقتصاد والعمران في بيروت ومحت إرثاً ثقافياً.
الحياة في بيروت تزداد صعوبة على الأفراد ناهيك عن المؤسسات التي تعاني الأمرّين لتدبر بداهات عملها مثل الكهرباء والوقود والاتصالات. كثير من الشركات غادرت المدينة لاستحالة استمرار العمل في مناخ التضخم المتفاقم وانهيار القطاع المصرفي وانقلابه إلى دكاكين لسرقة أموال المتعاملين بعدما أنجز السطو على أموال المودعين برضا الدولة. هذا القطاع الذي كان يتبجح بنجاحات خرافية، لم تتفتق أذهان أربابه إلا عن ممارسات قضت على رأسماله الأول – الثقة - قضاءً مبرماً. نتكلم عن المصارف لأنها كانت القطاع الاقتصادي الأكبر والأغنى في لبنان ما قبل الحرب الأهلية وما قبل انهيار 2019.
اضمحلال الصحافة تبع شلل الحياة الثقافية. أدى تفشي مرض «كورونا» دوراً ثانوياً في الظاهرة التي ترجع أسبابها الحقيقية إلى «كارثة صنعها البشر» بحسب تقارير المؤسسات المالية الدولية. الصحف المحتفظة بإصداراتها الورقية تدعو إلى الرثاء فيما تحاول مواقع إلكترونية سدّ الحاجة إلى الأخبار والتحقيقات والتحليلات بشقّ الأنفس وبالاعتماد على ممولين من خارج لبنان.
الجديد أن أفراداً كُثراً بدأوا يغادرون بيروت. الارتفاع الجنوني للأسعار والانقطاع الدائم للتيار الكهربائي وسط حرّ شديد جعل الحياة في المدينة عقاباً لا يُطاق. العاصمة تعرضت إلى غزو من «المطورين العقاريين» الذين قضوا على المساحات الخضراء القليلة أصلاً وشيدوا المباني الشاهقة المكسوة بالزجاج والفولاذ وبنوا بين كل مبنى وآخر، مبنى ثالثاً على نحو يفتقر ليس إلى الذوق (فهذا قد غادرنا منذ أجيال) بل إلى الوعي البيئي البسيط الذي يمنع نشوء «بؤرة حرارية مدينية» على ما يسميها أصحاب الاختصاص. غزو عكس افتقار الاقتصاد اللبناني إلى مجالات الاستثمار خارج العقارات والمصارف، ما مهد الطريق للكارثة الحالية.
الانتقال إلى الجبال والأرياف والعودة إلى قرى الآباء الجاري بكثرة هذه الأيام لأسباب معيشية ومالية، يشير إلى خسارة بيروت واحداً من آخر أدوارها، دور مركز العمل والصناعات والتجارة الذي يتطلب وجود كفاءات وزبائن ومشغلين. التعليم والاستشفاء يعانيان سكرات الموت أيضاً، حيث تتراجع أهمية ما تبقى من مؤسسات في هذين القطاعين فيها بسبب هجرة الأطباء والأكاديميين وفقدان التجهيزات اللازمة. العائدون إلى قرى الأهل والباحثون في البلدات البعيدة عن بيروت عن استراحة من اللهاث وراء وقود السيارات والاشتراكات في مولدات الكهرباء، قد لا تطول إقامتهم خارج بيروت، لكن في الظاهرة دلالة عميقة على ما لم تعد بيروت تعنيه: هي ليست المركز الحيوي ولا القلب النابض للبنان، بل هي اجتماع كل علله وأمراضه ومعضلاته. البقاء فيها يعني تحمل خلاصة كل ذلك من دون فرصة ولو للحصول على نسمة هواء باردة.
بيد أن للخروج من بيروت وجهاً آخر، هو خروج من تحت تسلط العصابة الحاكمة التي ظهرت آثار كل جرائمها على شوارع المدينة وعلى دورة الحياة فيها، لعل في هذا الخروج بعض الرفض لهيمنة الرعاع المؤيدين لقوى الائتلاف الحاكم الذين يجعلون من الحياة في العاصمة اللبنانية مجرد إضاعة للعمر وتفويت لأي فرصة للعمل والإنجاز.
وقد يكون شارع الحمراء الشهير في بيروت المثال الملموس على انحطاط المدينة وخساراتها الفادحة. وهذا كلام لا يدخل في باب التفجع على ماضٍ زاهٍ أفل، بل للقول إن الشارع هذا الذي التقت فيه روافد الأعمال التجارية والمالية إضافة إلى النشاطات الثقافية من مقرات للصحف ودور النشر والمسارح ومعارض الفنون التشكيلية إلى جانب أماكن الترفيه من مطاعم ومقاهٍ، يبدو اليوم كأنه تحمّل كل وطأة «الشدّة» اللبنانية (قريبة «الشدة المستنصرية» التي عاشتها مصر في العصر الفاطمي).
بيروت اليوم في حالة موت دماغي. العالم الذي شهد نهضتها وازدهارها لم يعد موجوداً. الثقافة التي دافعت عنها المدينة اندثرت. الاقتصاد الذي نهب أهلها والمقيمين فيها يختبئ في المصارف وراء أبواب مدرعة وحراس شرسين. الخروج من بيروت قد يكون تمهيداً لعودة ظافرة إليها بعد حين، لكنه قد يعني أيضاً فراقاً ما بعده لقاء.