سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

صناعة غير محلية

مثلما هو أفلاطون و«جمهوريته» أشهر الأسماء الفلسفية المرجعية في التاريخ القديم، يعدّ فولتير أشهر الأسماء المؤثرة في صناعة النظام السياسي المعاصر. ومنذ القرن الثامن عشر، يوم كان فولتير أشهر المفكرين، والجميع يرى أن أثر فولتير في الثورة الفرنسية امتد فيما بعد إلى متغيرات العالم.
لكن عندما نعود إلى قراءة سيرة فولتير تقف أمامنا نظرية تبادل الأفكار وعبورها الحدود والسدود. فإن الفيلسوف الفرنسي كان، بالدرجة الأولى، «صناعة إنجليزية». وكان هروبه من السجن الفرنسي إلى مناخ الحريات لدى الجارة القائمة عبر بحر الشمال، عاملاً أساسياً في اطلاعه على الأفكار الجديدة، التي عاد بها إلى فرنسا، حيث صنع مجده السياسي والأدبي، إضافة إلى ثروته الكبرى. الاسم الكبير الآخر بين آباء الثورة الفرنسية، لم يكن من باريس؛ بل من سويسرا.
الفكر العالمي له آباء، لكن ليس له أوطان. ولدت أنجيلا ميركل ونشأت ودرست وعاشت في ظل النظام الحديدي في ألمانيا الشرقية. لكن في يوم واحد أخذت تدير أحد أهم الأنظمة الديمقراطية في العالم. بسبب ثقافة واحدة لم يكن عليها الذهاب بعيداً للعبور من برلين الشرقية إلى برلين الغربية. الستائر الحديدية لا تستطيع صد الأفكار. لذلك؛ تغيرت آيديولوجيا العالم في أسبوع من دون نقطة دماء واحدة، بعد صراع طويل حول الأكثر جدارة بالبقاء.
بداعي الحفاظ على اللغة والعروبة منعت سوريا تعلّم اللغات الأجنبية بعد الاستقلال، فيما قيض للنظام التعليمي في مصر، مؤسس مثل بصير العرب؛ طه حسين. والآن تُدرّس الفارسية والروسية لغتين أجنبيتين. يخشى المرء أن المواقف السياسية ليست ذات فائدة في المبادلات العلمية. والصينيون الذين أصبحوا الدولة الأولى في العالم، لا يخجلون من الذهاب بالمئات إلى جامعات الولايات المتحدة، من أجل أن يعودوا إلى الصين لتطوير العلوم في بلادهم كما عاد فولتير من إنجلترا، حاملاً أفكار علمائها وفلاسفتها وعبقريات نيوتن وألكسندر يوبر ومسرح شكسبير.
التبادل العلمي ليس عيباً ولا هزيمة. الهزيمة هي الجهل والتقصير والتخلف عن المسيرة البشرية التي فاقت التوقعات والتخيلات. أنقذ بريطانيا من انهيارها الاقتصادي في العقود الماضية، عالم أميركي وعالم كندي جعلته «حاكم البنك المركزي»؛ أكثر المناصب «مجداً» بعد الملكة. ونصف علماء أميركا ليسوا أميركيين. وأشهر وزراء خارجيتها، كان هنري كيسنجر الذي من ألمانيا.
ترجم نجيب محفوظ إلى أكثر من 60 لغة ولا تزال روايته «أولاد حارتنا» ممنوعة في مصر. وقد قرأها في بلده كل من شاء. عندما تقرأ الآن ما الكتب التي كان يمنعها السوفيات، تتساءل: في ماذا كانوا يفكرون يومها، وكيف ينظرون إلى أنفسهم اليوم؟ للتخلف أسباب وأوجه كثيرة.