عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

السلطة الرابعة والتحديات الوجودية

مع تعاظم سيطرة كارتيل حفنة من المليارديرات تتحكم في النشر ووسائل التواصل الاجتماعي، تتزايد ضرورة دعم الصحافة، كسلطة رابعة، تحمي حريتي التعبير وحصول الأفراد على المعلومة من مصادر مستقلة متعددة.
لا نقصد بالدعم تمويل الدولة الذي ينذر بسيطرة سياسية تهدد قدرة الصحافة على محاسبة الحكومة، أو بتمويل مباشر كنموذج الرخصة السنوية لـ«بي بي سي» الذي أدى إلى سيطرة أوليجاركية من مثقفي اليسار على سياسة التحرير، بل بإقناع الناس بالإقبال على قراءة الصحف، سواء بشرائها المباشر من كشك بائع الجرائد، أو عبر البريد، أو بالاشتراك لقراءتها إلكترونياً عبر الأدوات المحمولة، خصوصاً مع تناقص مستمر في توزيع الصحف المطبوعة لربع قرن.
سأحكي من تجربتي الشخصية، قبل الانتقال للبرلمان، عندما كان مكتبي في مبنى الصحيفة، وأتحاور مباشرة مع مدير التحرير. وظيفة مدير التحرير (managing editor) في الصحيفة البريطانية (وبقية العالم الأنغلوسكسوني) ليست كالتسمية نفسها في الصحف العربية التي تعني (وأيضاً سكرتير التحرير) عمل الديسك، أي مهمة تحريرية تجمع بين المراجعة اللغوية، والإخراج البصري، بتصميم الصفحة وتصحيح الأخطاء. مدير التحرير في الصحيفة الإنجليزية يمارس مهام إدارية، وسياسية، ومالية، كهمزة الوصل بين الناشر (شركة أو صاحب الجريدة) ورئيس التحرير، وتحديد السياسة التحريرية، ليس لإرضاء الناشر أو الحكومة، بل لإرضاء المالك الفعلي للصحيفة، القارئ الذي يدفع ثمنها يومياً، ولكسب قراء جدد من الشباب، وذلك بتوجيه النصيحة للتحرير عن التيارات السياسية والاجتماعية السائدة للتعامل معها.
وقد استطردت في تعريف هذه الوظيفة، لأن الهيكل الأساسي، أو البنية التحتية، للصحيفة المطبوعة، له تقاليده المتراكمة من خبرة تزيد على ثلاثة قرون، في أقدم وأشهر شارع صحافة في العالم، فليت ستريت؛ وهي بنية غير موجودة في وسائل التواصل الاجتماعي وصحافة المواقع التي تسيطر على مجال النشر الأكبر اليوم، ولا في التلفزيون الأكثر تأثيراً في الرأي العام.
علمت من مدير تحرير الصحيفة (طيب الله ثراه وكانت خبرته وقتها تفوق نصف قرن) التي كنت أعمل بها، من الأرقام في 1999، أن تكاليف الطباعة والتوزيع لصحيفة ثمنها 50 بنساً تتطلب بيع 330 ألف نسخة يومياً (مدفوع ثمنها في الأكشاك، فأكثرية النسخ المطبوعة توزع مجاناً بما يعرف بـ«bulk» أو «كومة» أو بثمن رمزي على شركات الطيران ومؤسسات كـ«بي بي سي»، والمعاهد الدراسية). الرقم الحدي يعني الدخل من التوزيع الذي يغطي تكاليف الإنتاج بلا مكسب أو خسارة. وتحتاج إلى 10 في المائة زيادة (أي حوالي 35 ألف نسخة) لبدء تحقيق الأرباح، وكل زيادة 10 في المائة أخرى تقنع وكالات الإعلان برفع الثمن الذي يدفعه المعلن.
اليوم، في 2021، تبدو الأرقام أكثر إزعاجاً بالنسبة للصحف المطبوعة، بتناقص الدخل من المعلن الذي يفضل التلفزيون؛ أو الإعلان على محركات بحث الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأخيرة أقل تكلفة وتصل إلى الملايين بشكل إلحاحي عند استعمال كومبيوتر أو تليفون ذكي.
اليوم مثلاً ارتفعت تكاليف الطباعة والتوزيع بالنسبة للصحف اليومية، التي لا بد أن تطبع قرب أماكن التوزيع جغرافياً، مقارنة، مثلاً، بالكتب والدوريات، أسبوعية أو شهرية، التي ترسل «typesetting» (الصف) إلى الهند إلكترونياً، بينما تطبع في الصين، أو كوريا، أو الهند، وتشحنها بالطائرة إلى المدن البريطانية. التكاليف المرتفعة واجهت مديري التحرير بخيارين؛ إما زيادة ثمن الصحيفة عشرة أضعاف لتوزيع عدد حدي مماثل لعام 1999، أو مضاعفتها مع معدلات التضخم (خمسة أضعاف) مع زيادة عدد التوزيع وإقناع المعلن أن عدد القراء ازداد («التايمز» مثلاً متوسط عدد قراء النسخة الورقية المبيعة أربعة أشخاص)، أو حتى توزيعها مجاناً كحال صحيفة «مترو» الصباحية و«الإيفيننغ ستاندارد» المسائية اللندنيتين (توزعان يومياً مليوناً وأربعمائة ألف، و800 ألف، في 2020 انخفضتا إلى 900 ألف، و600 ألف في 2021 بسبب إغلاق وباء «كوفيد»).
كل الصحف تأثر توزيعها بسبب إغلاق «كورونا»، ليس فقط لإحجام الناس عن لمس الصحف الورقية من عند الباعة، بل أيضاً لعدم تنقلهم بمواصلات عامة يقرأون فيها الصحف المطبوعة. وحسب أرقام الشهر الماضي، فإن التوزيع اليومي، حتى بعد ارتفاعه بتقليل قيود العزلة الصحية منذ سنة أسابيع، لا يزال أقل كثيراً عن عامي 2020 و2019.
خمسة فقط (من جملة 16 صحيفة يومية مبيعة) توزع أعلى من النسبة الحدية؛ «الصن» (مليون و211 ألفاً)، «الديلي ميل» (961 ألفاً)، «الديلي ميرور» (367 ألفاً)، «التايمز» (370 ألفاً)، «التلغراف» (338 ألفاً). بقية الصحف تخسر مادياً، إذ لا تبيع الحد الأدنى من الأعداد، فـ«الغارديان» توزع 48 ألفاً، بجانب 60 ألفاً «bulk»، و«فينانشال تايمز» (77 ألفاً مبيعة و25 ألفاً «bulk»)، «الآي»، النسخة الورقية من «الإندبندنت» التي أصبحت موقعاً فقط (140 ألفاً مبيعة، و44 ألفاً «bulk»).
هذا يعني أن النموذج الأمثل الذي نحن بصدده هو الاشتراك أونلاين لقراءة الصحف على الموقع.
لكن هذا بدوره اتضح أنه ليس بطوق نجاة للكلمة الحرة المكتوبة، خصوصاً أن دور نشر الصحف تحاول جعل الاشتراك أونلاين مصدر تمويل 99 في المائة من المؤسسات مع حلول عام 2030، حسب دراسة قدمها هذا الأسبوع دومينيك يونغ (مؤسس نظام «أكسيت»، وهو نظام دفع الاشتراكات الإلكترونية لدور النشر).
الدراسة وجدت أن 28 موقعاً فقط (من الآلاف من مواقع الصحف المنشورة بالإنجليزية) يفوق عدد المشتركين فيه 100 ألف، وعشرون من هذه المواقع في الولايات المتحدة وحدها.
والسبب ليس مادياً، فالاشتراك الإلكتروني في صحيفة متنوعة كـ«الديلي ميل» أو «الديلي تلغراف» مثلاً، ثمانية جنيهات في الشهر، أي 27 بنساً في اليوم (فنجان القهوة ثمنه 250 بنساً، وتذكرة الأتوبيس بجنيهين أي 200 بنس). لكن يهددها المنافسة من منصات متعددة كـ«السبستاك» (Substack)، أي النشر الفردي مباشرة، سواء من صحافي أو معلق أو أكاديمية، مجاناً على مواقع، كخطوة لتكوين عدد من المشتركين، كل بقروش بسيطة، تذهب إلى جيب الصحافي أو الكاتب وتقتطع إدارة الموقع نسبتها كوكيل.
وحتى الآن يهرش مديرو التحرير رؤوسهم في البحث عن وسائل لإبقاء السلطة الرابعة الحقيقية على قيد الحياة.