سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

العائد أبداً إلى فلسطين

في كل مرة أقرأ فيها غسان كنفاني، أتساءل أين وجد هذا المناضل المنشغل بالكفاح والتحرير، المنخرط في البحث عن الرزق، منذ كان في السادسة عشرة من عمره، الوقت الكافي لتدبيج روائعه، وتجويدها. كيف أنجز 18 كتاباً، لا، بل تحفاً أدبية، عدا المقالات والرسوم، والمقابلات والخطابات، يوم كان ناطقاً باسم الجبهة الشعبية، والمشاركات في المؤتمرات، خلال 16 عاماً فقط، وهو محاط دائماً بالأصدقاء والرفاق الذين كانوا لا يغادرون مكتبه.
لم تمهله غولدا مائير وقتاً. كان لا يزال في السادسة والثلاثين حين أمرت باغتياله، رغم أنه لم يكن قائداً سياسياً ولا عسكرياً محنكاً، مجرد أديب لكلمته حدة سكين، لم تحتملها رئيسة وزراء تدرك أن الطفل الذي شردته، في قلبه من النقمة ما يوزع على العالم ويفيض. قبل 49 عاماً بالتمام، فخخ الموساد سيارة كنفاني الصغيرة المركونة أمام بيته بالحازمية في بيروت، وما أن صعد داخلها وإلى جانبه ابنة أخته لميس حتى انفجرت، فطارت ابنة السبعة عشر ربيعاً وتشظى جسدها على أشجار الزيتون المحيطة؛ وعثر على بقايا غسان كنفاني في الوادي المجاور.
كتب ابنه فايز الذي كان طفلاً، ولا يزال يتذكر قطاره الكهربائي الذي أصلحه له والده، قبيل مغادرته المنزل في ذلك اليوم المشؤوم «كنا أحياناً نعمل معاً في الجنينة. وحين يشتد الحر ننزع قمصاننا. وبعد العمل كان غالباً ما يعلمني كيف أستخدم المسدس الصغير الذي اشتراه لي». فايز ابن آني، السيدة الدنماركية التي أحبت العرب وفلسطين، ولا تزال تناضل من أجلهم، وعد يومها بأنه حين يكبر، سيكون مثل والده «سأحارب لكي أعود إلى فلسطين، والأرض التي حدثني، هو وحدثتني أم سعد كثيراً عنها».
يستجر الظلم كلما أمعن المستبد في ممارسته، عشقاً إضافياً للحرية. وغسان كنفاني الروائي والقاص والصحافي والمسرحي والناقد الحاذق، والرسّام وظّف كل مواهبه، لانتزاع الحرية للمضطهدين، وللرد على ما تعرض له طفلاً. من والده المحامي الذي دافع عن المناضلين أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، تعلم المرافعات، والتسلسل المنطقي للأفكار. وهو لم يطرد مرة واحدة من بيته، بل مرات. تركت العائلة يافا إلى عكا، على اعتبار أنها ستكون بمنأى عن المجازر التي كان يتردد صداها في المدن الأخرى. لكن سرعان ما وجدت العائلة نفسها مع مئات آلاف آخرين، مجبرة لأن تترك مأواها إلى المجهول. رأى ابن الثانية عشرة المقاتلين الفلسطينيين يدافعون عن أرضهم، عايش جيش الإنقاذ العربي بقيادة الشيشكلي، انخرطت عائلته في الدفاع عن سقفها، لكنها اضطرت في النهاية إلى أن تستقل حافلة إلى الغازية في ضواحي صيدا. مكان قريب من الحدود الفلسطينية بانتظار العودة. وسرعان ما أدرك آل الكنفاني، وليس في الجيب سوى القليل من المال، أن الانتظار سيطول، فانتقلوا إلى سوريا. لم يكتب كنفاني عن وطن متخيل، أو بتحريض روائي؛ فقد سجّل ما رأى وعانى. قصته البديعة «عائد إلى حيفا» دبجها خلال شهر واحد، اضطر فيه إلى أن يلازم بيته في بيروت، مطلع عام 1962 بعد انقلاب القوميين السوريين، حيث كان أحد أهم الروائيين العرب في القرن العشرين، يقيم في العاصمة اللبنانية، من دون أوراق رسمية. كانت الدوريات الأمنية تبحث عن المشتبه بهم في الانقلاب، وحين وصلت إلى عمارته في شارع الحمرا، قال لهم بواب المبنى، إن هذا المنزل تقيم فيه امرأة أجنبية، فانصرفوا. عكف كنفاني في مخبئه، على وضع قصة، تذكّر فيها ما أوصله إلى هذا التواري الإلزامي المؤلم. ولم تكن روايته الأكثر شهرة «رجال في الشمس» إلا تعبيراً عن إحساسه بالقيظ المميت، حين كان في الكويت، ويضطر إلى زيارة عائلته في سوريا، بالسفر في السيارة، في صحارى العرب، محتملاً الحرّ والإنهاك.
في كل تجاربه الحياتية على قصرها، والكثيفة بأحاسيسها، كانت فلسطين تحضر وكأنها ضميره وأناه وكله. لم يتمكن لحظة، من نسيان مهانة الطرد. التمرد على الإذلال لم يفارقه، وهو لا بد يسكن كل أولئك الأطفال الذين نرى بيوتهم تهدّم، وألعابهم تغطى بالحجارة والتراب، وتضيع ذكرياتهم بين الحطام.
خرجت العائلة المكونة من ثمانية أنفار فقيرة، بائسة، تارة يجمع الكتب ويبيعها، وحيناً يعمل في كتابة اليافطات على قارعة الطريق، أو يرتّب هو وإخوته مَلازم الأوراق، ولا بأس في أن يعمل في مطبعة، أو يحرر نصوصاً، ثم أستاذاً للرياضة والرسم. كل الأشغال كانت صالحة، لإبعاد غائلة العوز عن اللاجئين في رحلة العذاب. كتب أخوه عدنان الذي عاش معه تلك المرحلة «تعلمنا ألا نمرض ولا نشكو، وأن نكتفي أحياناً بالخبز وحده غذاءً رئيسياً، وأن نتجاهل الأعياد والأفراح. تعلمنا كيف نقاوم البرد بالأجساد، وألا نشكو من القيظ، تعلمنا كيف ننام أربعة على فراش واحد، وعلى كتف واحدة كأسنان المشط».
كان غسان كنفاني يقرأ بنهم شديد، ويكتب بسرعة فائقة. تعليمه الفرنسي في فلسطين على حساب العربية، عوضه في فترة إقامته في الكويت. تلك كانت مرحلة حاسمة، خلالها بدأ تكوينه الأدبي الفعلي، وفي بيروت نحتت تجربته المقاومة أسلوبه وصقلته. بقدر ما كان حيوياً وديناميكياً، يبث الروح في كل ما حوله، كان لا مبالياً بالموت، شرط أن يباغته كريماً، شامخاً. لأن «الصقور لا يهمها أين تموت»، طالما أن الأجساد هي التي تسقط وتبقى الفكرة.
محقّ بسام أبو شريف، صديق عمره، حين قال «إن تاريخ تبلور النثر الفلسطيني، لم يبدأ إلا مع غسان كنفاني»... فهو الذي «نقل الحبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم».