حنا صالح
كاتب لبناني
TT

«تفلتٌ» مدروس لاستكمال نقل الثروة وإحكام الاستتباع!

تتسع مظاهر الغضب في كل لبنان، وبات الاحتقان الشعبي سيد الموقف، بوجه سلطة جائرة اعتمدت النصب والنهب في استباحتها البلد وجهود مواطنيه، وتمعن في تهديم ركائز الدولة، مدعية مكافحة الفساد وهي راعيته. هي سلطة قانونية لكنها تقوم بدور مافياوي غطى اختطاف الدولة وتغول الدويلة.
خلال فترة 18 شهراً مرت على انطلاقة ثورة «17 تشرين»، لم تتخذ السلطات اللبنانية أي تدبير من شأنه فرملة الانهيار، ولم تبادر إلى أي خطوة تظهر حداً معيناً من الاهتمام بوجع الناس... لا بل هناك حتى في منحى «اللاقرار» قرار أكيد بتعميق الانهيار وإحكام طوقٍ على الرقاب من الإذلال وانتهاك الحقوق.
إنه الرهان القديم - الجديد على دفع الأوضاع إلى تفلت كبير، وقد شهدت الأيام الأخيرة من يونيو (حزيران) تفاقم الأخطار، عندما راحت مؤسسات الدولة تتساقط أمام حكم عاجز وسلطة مستقيلة من مسؤوليتها. توقفت أجهزة كومبيوتر المالية وتوقف استيفاء الرسوم، وتوقفت صناديق جمارك المطار لفقدان الأوراق والمحابر وتعرقلت حركة الشحن الجوي، كما توقفت كل المعاملات في المقر الرئيسي للجوازات وإجازات الإقامة.
في العمق هو «تفلت» مشغول في الكثير من جوانبه، يراد منه إغراق البلد في الفوضى وما يمكن أن ينجم عنها من أحداث، تتيح للسلطة باسم استعادة الاستقرار استغلاله للانقضاض على الناس، متوسلة القمع والبطش والاعتقالات والاستدعاءات أمام المحاكم، لتغطية تلكؤ حملة الأختام أصحاب القرار عن مسؤوليتهم، أمام الانهيارات وانفلات المحتكرين وتحكم المافيات، وعدم الالتفات إلى وجود نحو 500 ألف لبناني عاطل عن العمل، أي نحو 500 ألف أسرة تم رميها في أشداق العوز والجوع.
نعم، في كل أداء السلطة توسل لمثل هذا الصدام مع المواطنين، لحرف الأنظار عن المسألة المحورية، ألا وهي المضي بتنفيذ أخطر قرار سياسي «جيواستراتيجي» يقضي بنقل الثروة إلى الخارج. هذا القرار الخطير تم اعتماده لحظة اللاقرار بحماية البلد ومقدراته ومصالح مواطنيه. لقد كان المطلوب مباشرة بعد «17 تشرين» أن يتحمل المجلس النيابي المسؤولية ويشرّع قانون «كابيتال كونترول»، لكن البرلمان الفاقد للشرعية لم يتحمل المسؤولية المنوطة به فراح يسوف منذ أكثر من 18 شهراً. ولئن كانت حكومة الحريري قد سقطت تحت وطأة «17 تشرين» فتوقفت تعسفاً عن أي ممارسة خلافاً للقانون، فيما الحكومة - الواجهة برئاسة دياب أهملت واجبها في مرحلة الأعمال ومرحلة تصريف الأعمال.
أما مصرف لبنان، يقول د. توفيق شمبور المرجع في شؤون النقد والقانون: «كان عليه أن يقيد منذ البداية حركة تحويل الأموال إلى الخارج سنداً للمادة 174 من قانون النقد والتسليف لكنه فعل العكس، فقد أصدر عدداً من التعاميم تناولت تقييدات متنوعة على الحسابات التي بقيت موطنة في الداخل». ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا مروراً بفترة إقفال المصارف كانت الأموال تهرب إلى الخارج، ووفق أكثر من جهة، يزيد ما تم تهريبه على 20 مليار دولار، من حسابات المنظومة السياسية وكبار رجال الأعمال والمصرفيين والمديرين التنفيذيين، وبينهم حاكم المصرف المركزي نفسه رياض سلامة، سنداً إلى التحقيقات التي بدأها قبل أشهر القضاء السويسري.
بالتزامن استبيحت الحدود وتراجعت إمكانية العثور على المواد المدعومة في السوق. كل العالم الذي تابع فصول الانهيارات اللبنانية المتسارعة صدمته ولا شك قوافل صهاريج المحروقات تعبر الحدود إلى سوريا، وصدمة قوافل شاحنات الطحين، ووجدت السلع الغذائية المدعومة على رفوف متاجر بلدان عربية وأفريقية كما شحت الأدوية التي كان يعاد تصديرها. ويعلن حاكم المصرف المركزي في ربيع عام 2020 أن «التهريب» يستنزف سنوياً 4 مليارات دولار وهو مستمر منذ 5 سنوات. الأمر ليس مجرد تهريب بل عمل مقونن، فمنع التهريب بحاجة لقرار سياسي يقضي بضبط خزانات الوقود والمطاحن ومستودعات الأدوية وعندها ينبت الحشيش على معابر التهريب!
خلال فترة بعد 17 تشرين وحتى منتصف يونيو الماضي تراجعت موجودات المصرف المركزي من 32 مليار دولار إلى 15 ملياراً فقط، هي الاحتياط الإلزامي على الودائع، أي أنها أموال للمودعين وليست أموالاً عمومية، فكان طلب المركزي تأمين تغطية حكومية لمد اليد على هذه الأموال للاستمرار بسياسة دعم منفلت يؤمن طبعاً الأرباح لكبار المحتكرين من تجار السياسة وشبكات المافيا، ويؤمن التمويل لدويلة «حزب الله» الممسكة بالمعابر وميليشيات النظام السوري. كانت مسرحية ركيكة الإخراج استغلت الجوع والعوز لتنظم تلاعباً بالأمن، تحت وطأته انعقد اجتماع بعبدا غير ذي الصفة، وأمن التغطية للمصرف المركزي لبدء قضم الاحتياط. ومعروف أن هذا النهج لن يؤمن للمواطنين البائسين لا المحروقات ولا الرغيف ولا الدواء.
خلاصة القول إنه خلال فترة 18 شهراً تم تهريب 20 مليار دولار، وأنفق المركزي 17 ملياراً على الدعم ومواصلة «الهدايا» من جيوب الناس للكارتل المصرفي، أي ما مجموعه 37 مليار دولار كانت أكثر من كافية مع الاحتياط الإلزامي لإعادة تكوين المالية العامة، وإعادة هيكلة المصارف، وبدء مسيرة انتشال الدولة مع التراجع الكبير في الاستيراد وارتفاع تحويلات «الدياسبورا» اللبنانية إلى ما يفوق 6 مليارات دولار سنوياً، لينخفض العجز التراكمي في ميزان المدفوعات من 20 مليار دولار إلى نحو ملياري دولار.
كان ذلك ممكناً لو توفرت حكومة مستقلة قادرة على استعادة الثقة وتحمل المسؤولية، فتمثل مصالح لبنان واللبنانيين، ولا المصالح الضيقة على مصالح البلد، وترفض ارتهان لبنان للممانعة ما تسبب في عزله عن الأشقاء والأصدقاء وتحوله إلى منصة صواريخ ومنصة كبتاغون. وهذا يفسر أبعاد إسقاط تكليف مصطفى أديب، وبعده إجهاض مقترح «حكومة مهمة» لإنجاز الإصلاحات، والإمعان في تأبيد الفراغ السياسي في السلطة من فوق إلى تحت. وكذلك أبعاد تسليم قرار البلد لـ«حزب الله» الفريق المرتبط بالأجندة الإيرانية.
أما الأموال المنهوبة، والقسم الأكبر منها أموال سيادية ونتيجة جني الأعمار، كان يمكن وما زال استعادتها كما يقول د. توفيق شمبور، الذي ذكر بالتشريع الذي اعتمده رئيس الوزراء الفرنسي Paul Reynaud الذي ألزم الفرنسيين في سنوات الحرب بإعادة أموالهم من الخارج فتم استرجاع 57 ملياراً خلال ستة أشهر، وهذا التدبير تم اعتماده أيضاً من قبل المصرف المركزي في ألمانيا... ليس البلد بحاجة إلى قوانين بل يفتقر إلى حكومة مستقلة قادرة على اتخاذ قرارات جدية تحمي البلد ومصالح أهله لتستعيد الدولة دورها. إن قرار نقل الثروة إلى الخارج يماثل الخيانة الوطنية وهو الخطوة الأخطر في سياق النهج المدمر لإحكام استتباع لبنان.