حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

حين يرحل شاعر: سخاء التسييس وبخل السياسة

مع اللبنانيّ سعيد عقل كما العراقيّ سعدي يوسف، ومع الكثيرين الذين رحلوا بين رحيليهما، يتكرّر السيناريو ذاته: ما إن يغيب عن دُنيانا شاعر، أو أديب أو فنّان...، حتّى يظهر رثاء وهجاء تلعب السياسة الدور الأساسيّ في معظمهما. «المهنة» نفسها قليلاً ما تُذكر، وفي معظم حالات الإشارة إليها يأتي هذا مسبوقاً بتعبير «على رغم»: على رغم شاعريّته، هو خائن أو منحرف... أو في المقابل: على رغم ما يقوله عنه الخصوم فهذا برهان آخر على عظمته أو إبداعيّته. هذا في أحسن أحوال الاكتراث به كشاعر. أمّا في أسوأها، فيُصار إلى نفي شاعريّته جملةً وتفصيلاً.
هكذا يغدو الرثاء تمجيداً وتذكيراً بمواقف يحبّها الراثي، كما يغدو الهجاء تشهيراً وتذكيراً بمواقف لا يحبّها الهاجي. بمعنى آخر، يتحوّل المتوفّى إلى ذريعة، والوفاة إلى مناسبة جديدة لإبداء مواقف قديمة.
نظريّاً، لا بدّ من الفصل بين الاثنين، خصوصاً أنّ حياة الشاعر كشاعر والفنّان كفنّان غير حياتهما كفَردين. قد تتقاطعان لكنّهما لا تتطابقان. في الحالة الأولى، تحضر المعاناة ويحضر الأسلوب والتعبير والموقع في تاريخ الشعر أو في التاريخ الشعريّ لبلد الراحل. في الحالة الثانية، تحضر الأفعال والمواقف والسلوك.
ونظريّاً أيضاً: إن لم يُعتمد التمييز بين المستويين يغدو تسييس كلّ شيء خطراً داهماً، وتسييس كل شيء طريق قصير إلى التوحّش. فالشاعر حتّى لو كان فاشيّاً كالأميركيّ إزرا باوند، أو شيوعيّاً كالتشيليّ بابلو نيرودا، يُفترض بخصومه السياسيّين والآيديولوجيّين أن يعاملوه على خطّين متوازيّين: كشاعر من جهة وكإنسان من جهة أخرى. وحتّى لو كان صاحبَ أقوال، وربّما أفعال، مسمومة في نظر خصومه، يُفترض تحييد هذا عن تقييمه الشعريّ، ولو كان جائزاً على الدوام البحث عن أثر حياته في شعره، أو أثر شعره في حياته، إن وُجد أيٌّ من الأثرين.
لكنْ ما الذي يجعل هذا الاعتبار النظريّ أقرب إلى الوعظ والتبشير اللذين لا يُسمنان من جوع؟
مردّ هذا، في أغلب الظنّ، إلى أنّ الواقع نفسه يسيّس كلّ شيء وصولاً إلى الوحشيّة، وإلى الحروب الأهليّة وممارسة أقصى العنف، فيما، باليد الأخرى، يصادر السياسة ويمنعها. إنّها معادلة الجمع بين تسييس الحدّ الأقصى وسياسة ما دون الحدّ الأدنى.
إذاً هو الواقع، وليس «ثقافتنا»، ما لا يترك حيّزاً لمعيار غير هذا المعيار المتوحّش، خصوصاً حين يكون الشاعر المعنيّ خصماً سهلاً أو حليفاً سهلاً، بفعل ضلوعه في آراء سياسيّة، أو طائفيّة وعنصريّة، أو في تحريض مباشر على القهر والقتل والانتهاك. أمّا المأخذ على «ثقافتنا» فلا يكون في محلّه إلاّ حين يركّز على تواطؤها مع هذا الواقع الكالح. والشاعر، كما نعلم، معروف بحدّته التعبيريّة التي تجعله مطلوباً ومرغوباً بقدر ما تجعله سهلاً، وفي أوضاع التوحّش يترادف السهل والمطلوب. العراقيّ عبد الوهاب البيّاتي عرف هذه الحقيقة وعمل بموجبها حين كتب عن خصومه:
«سنجعل من جماجمهم منافضَ للسجائرْ»
بدوره فإنّ بيتر سلاغليت الذي درس العراق وأحزابه وصراعاته، سبق أن رأى أنّ الشعر كان أشدّ تأثيراً وفعلاً في بيئة الحزب الشيوعيّ العراقيّ من كتابات القادة الشيوعيّين كفهد وسلام عادل التي كانت أشبه بترجمات مبتذلة للأعمال الستالينيّة والدعائيّات السوفياتيّة.
ترادُف السهل والمطلوب هو ما لا يترك إلاّ قلّة قليلة تريد الشاعر كشاعر، وليس كـ «محامٍ عن قبيلته» وفق التعبير الشهير المترسّب عن «الجاهليّة». فالشعريّة الخالصة يندر الطلب عليها.
الفلسطينيّ محمود درويش، «شاعر القضيّة» التي توصف بموضع الإجماع، تعرّض هو نفسه للشتائم حين ابتعد عن «سجّل أنا عربي»، وكتب شعراً. حتّى السوريّ نزار قبّاني، الذي حماه النأي بالنفس عن القضايا الخلافيّة، كانت تلاحقه الشتائم في حالات اقترابه القليلة من تلك القضايا. مَن يذكر قصيدته «خبز وحشيش وقمر» والمضاعفات التي أثارتها في الخمسينيّات، أو «هوامش على دفتر النكسة» في أواخر الستينيّات؟
لكنْ أليس من الصعب أن نطالب السجين والمهجّر وابن القتيل أو أباه أن يفصل الشاعر عن الإنسان؟ أن يتقيّد بالافتراض النظريّ؟
إنّ بؤس الواقع هو ما يغلّب النظر إلى الشاعر بوصفه، قبل أيّ اعتبار آخر، إمّا الحليف أو العدوّ. ووحدهما الحذلقة والقسوة ما يحمل على توقّع الشعر الخالص في محيط يصنعه سخاء التسييس وبخل السياسة، كما تغمره وحشيّة طاردة للتمدّن وقويّة إلى الحدّ الذي يُغري شعراء كثيرين.