حنا صالح
كاتب لبناني
TT

الجريمة المنظمة لإخضاع لبنان

في خضم التحليلات عن العثرات التي تمنع تأليف حكومة جديدة، بعدما دخل لبنان الشهر الـ11 على انهيار حكومة حسان دياب تحت وطأة التفجير الهيولي لمرفأ بيروت، يستمر التضخيم المفتعل للدور المنوط بالنائب جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية، وتردد بعض الجهات اشتراطاته التي توحي بأن مسألة تسمية وزيري الداخلية والعدل المسيحيين باتت العقدة التي استعصت على الحل!
وبلغ مخطط تسخيف الأسباب الحقيقية للتعطيل بقصد تأبيد الفراغ، حد الزعم أن الخلافات على الصلاحيات والحقوق والأدوار بين عون والحريري أفشلت نصيحة نصر الله بضرورة الاستعانة بـ«صديق» هو نبيه بري، ليستعيد عندها كثيرون ما كان قد أعلنه قبل فترة النائب محمد رعد: «ما من حكومة في لبنان رَح تتشكل من دون موافقة المقاومة... وإذا تشكلت فسيبقى البلد معطلاً ولن تستطيع أن تحكم»!
إن كل ما يجري من دفع لتعميق الانهيارات ومنع أي إجراء داخلي لفرملتها والأمر ممكن، كما الإصرار على إبقاء الأبواب موصدة في وجه كل المحاولات الخارجية للمساعدة، والمضي في مخطط تكريس الشلل والفراغ، شيء لا يحصل بالصدفة بقدر ما هو نتيجة عمل طويل الأمد مدروس ومبرمج ويتكرر مرة بعد مرة، وفي كل جولة يتقدم خطوات الطرف الساعي إلى إحكام قبضته على البلد. قبل سنوات، في 6 أبريل (نيسان) 2013 جرى تكليف تمام سلام تأليف الحكومة، فاستغرق الأمر نحو 11 شهراً، لتعلن في 15 فبراير (شباط) 2014 بعدما حققت مفاوضات الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن شوطاً متقدماً. يومها جرى استخدام لبنان ورقة في أجندة المفاوض الإيراني. لكن اليوم مع اتساع حجم الأزمة التي صنفها البنك الدولي بأنها ثالث أخطر أزمة عرفها العالم خلال آخر 150 سنة، فإن الأمور أخطر بكثير.
التسوية الرئاسية في عام 2016 التي أسفرت عن مقايضة كراسي في الحكم مقابل تسليم القرار اللبناني إلى «حزب الله» ومن خلفه طهران، أمرٌ غيّر الكثير من شروط الممارسة السياسية؛ لأنه بعد ذلك لم تعد مسألة مثل تأليف الحكومة قضية بيد الأطراف المحلية، وما قاله محمد رعد حقيقي، وإن كان التنفيذ رهن الضوء الأخضر من طهران. وبالتالي فتعميم الفراغ والشلل الذي أصاب كل المؤسسات، والترهل في أداء مسؤولين ينتظرون الوحي، والاستنكاف عن أي تدبير، كما التسليم بكل التجاوزات فوق القانون، هدفت إلى توظيف الوضع المستجد في خدمة مشروع بديل. لقد صار لبنان مجرد مساحة جغرافية قاحلة وشعب بائس، يراقب الناس... أرضهم سائبة وحدود بلدهم مستباحة... ما يجري جريمة منظمة لإخضاع لبنان.
بدأت هذه المرحلة مع نهاية حرب يوليو (تموز) في عام 2006 عندما حمل الوزير الإيراني منوشهر متكي إلى السراي الحكومي، رغبة طهران في تعديلات دستورية تلغي ما تقرر في «الطائف» لجهة المناصفة في السلطة بين المسيحيين والمسلمين. والبديل الذهاب إلى مثالثة طائفية واستحداث مناصب جديدة؛ بينها منصب نائب رئيس الجمهورية الذي يجب أن يخصص للطائفة الشيعية. جوهر الطرح إلغاء للدستور، وطي صفحة وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب الأهلية، وشطب المنحى الذي أكده «اتفاق الطائف» وتكرس في الدستور لجهة الذهاب إلى انتخابات خارج القيد الطائفي، فيما الوصفة الإيرانية رمت إلى توزيعة مذهبية للسلطة.
لم يمر هذا الطرح، لكن على أرض الواقع بدأ «حزب الله» الترويج لما سماه «المؤتمر التأسيسي»! وكل ما جرى بعد هذا التاريخ أريدَ منه خدمة هذا الهدف. بدأ القضم العلني للقرار ومفاصل الحكم، وأعيدَ النظر في أسس ممارسة السلطة والصلاحيات في «اتفاق الدوحة» عندما اقتنص «حزب الله» حق «الفيتو» الذي عرف باسم «الثلث المعطل»! ورغم فوز القوى المعروفة «14 آذار» في الانتخابات البرلمانية عام 2009؛ فإنه جرى فرض حكومة ضمت الفائزين والخاسرين. منذ ذلك التاريخ، فإن السلطة التي قامت على فكرة توسيع المشاركة قدمت للمواطنين وللبنان سلطة مضمحلة تقود إلى الانحطاط.
اضمحلال السلطة وتلاشي الدولة وتغييب المؤسسات، كان هدف «الحزب» الذي يمتلك فائض القوة، فسعى إلى ملء الفراغ وفرض قوانينه. توسع الاقتصاد الموازي بعد وضع اليد على جانب من العائدات العامة، وبات المرفأ والمطار كما الحدود البرية في قبضة الدويلة! وإلى المربعات الأمنية بدأت المربعات الاقتصادية و«القرض الحسن» شبكة مالية بديلة، واستبيحت الحدود، وأُلغي عملياً نهج «النأي بالنفس»، وزج لبنان في حروب بالوكالة عن النظام الإيراني ضد المنطقة وأهلها. إنها مسيرة عزل البلد مع تقدم استتباعه لمحور الممانعة. مسار متكامل لم تواجهه العوائق، ولم يجد جهة رسمية ترفع الصوت أو تحذر من النتائج؛ لأنهم أصحاب شهية مفتوحة على المحاصصة والمصالح الخاصة، لـ«يتفاجأ» البعض بأن لبنان تحول إلى منصة صواريخ وإعلام معادٍ لمصالح لبنان أولاً، قبل تحوله إلى منصة «نيترات أمونيوم» غيّرت مجرى حياة المواطنين، وبعدها منصة «نيترات رمان» وسموم أريدَ منها النيل من استقرار البلدان الشقيقة وأمنها.
إن الوصول إلى هذا الدرك كان نتيجة تمكن «حزب الله» من فرض مرشحه العماد عون رئيساً، فساد تبادل «الخدمات» بين الجانبين؛ وهو الأمر الذي رتب الأثمان الفادحة على الناس. فتُرك الانهيار يتقدم والفراغ السلطوي يستوطن، وعلى كل المستويات تقدمت المصالح الضيقة. المثال الأبرز أن ما يجري هذه الأيام على صعيد المصرف المركزي واللجنة النيابية المالية يراد منه تكبيد صغار المودعين ثمن المنهبة وتحييد ثروات الكارتل المصرفي والسياسي، وإعادة الحياة إلى النموذج الاقتصادي الذي دمّر البلد، وقد بات بعد «17 تشرين» تحت حماية «حزب الله»؛ لأنه النموذج الذي أمّن مصالحه، ومصالح منظومة الحكم، وحدد أولوياته؛ وأهمها قطع الطريق على مطلب الحكومة المستقلة القادرة على قيادة مرحلة انتشال البلد.
في السر والعلن هناك طرح يتقدم هو «المؤتمر التأسيسي»؛ أياً كانت التسمية، منطلقه شلل المؤسسات وتفاقم الانهيارات على الصعد المالية والاقتصادية والاجتماعية. إنه الهدف الذي يرى فيه «حزب الله» تتويجاً لمسيرته. لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن لطبقة سياسية فاسدة يقودها «حزب الله» تحقيق هذه المهمة؟ وأي تسويات ممكن أن تنجزها ولمصلحة من؟ وهل ينتشل هذا المنحى البلد من الحضيض؟ أم إن الهدف البعيد مزيد من الاستتباع والهيمنة، والممارسة الاستعلائية، التي لا تقيم وزناً للناس الذين في «17 تشرين» أصابوا منظومة الحكم بالشلل، وأربكوا «حزب الله» بعدما منعته سلميتهم من استخدام فائض القوة كما يريد؟
ليس سهلاً تجاهل أكثرية اللبنانيين الذين رفعوا شعار استعادة الدولة المخطوفة، واستعادة الدستور والسيادة، وأثبتوا على الدوام أن لبنان لا يحكم بميزان قوى ظرفي مؤقت؛ لأن ضرر عدم الاستقرار سيطال حتى «البيئات الآمنة». على «التشرينيين»؛ وهم أغلبية، إيجاد السبل والأدوات الكفاحية للرد على هذا التحدي.