عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

صحافة القربان على مذبح البيئة

ذكرت الأسبوع الماضي، في إيجاز، الأضرار التي يدفع المجتمع ثمنها عند إخفاق الصحافيين في طرح السؤال المناسب على الشخص المناسب في الوقت والزمن المناسبين، وفقدان السلطة الرابعة دورها كدعامة رئيسية للديمقراطية تحاسب الحكومة.
الخطأ يتكرر هذا الأسبوع بشأن تعديلات المرور التي أدخلتها بلدية بيرمنغهام، ثاني أكبر المدن البريطانية (وإن كانت مانشستر تنافسها على اللقب، وكلتاهما من قلب إنجلترا الصناعية من مقاطعتي الميدلاندز، ولانكشير محل ميلاد الثورة الصناعية). بلدية بيرمنغهام تقلد عمدة لندن، في الادعاء بأن النظام الجديد «يحمي الهواء من التلوث» بفرض ضريبة ثمانية جنيهات يومياً على سائق أو صاحب كل سيارة أو شاحنة بالبنزين أو الديزل، أي بمحرق الاحتراق الداخلي؛ وغرامة التأخر عن الدفع 120 جنيهاً، أي 15 ضعف الضريبة. وباستثناء بعض الصحف على يمين الوسط كـ«الديلي إكسبريس»، التي بينت، بالأرقام، أن الضريبة الجديدة ستثقل عاهل الفقراء، لافتقادهم ثمن سيارات بمحرك كهربي، فإن الغالبية الساحقة من الصحافيين لم تطرح الأسئلة البديهية.
ولمحاولة توخي الدقة، بإمكاناتي المحدودة، قضيت بضع ساعات أستمع لمقابلات شبكات الراديو والتلفزيون، خصوصاً «بي بي سي» و«سكاي» و«القناة الرابعة» مع ممثلي بلدية بيرمنغهام، ومع جماعات البيئة والخضر (التي تريد مضاعفة المبلغ والغرامة)، لأنها الوسائل المؤثرة على الرأي العام من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن دراسة طريقة أداء مقدم البرنامج، بعكس المقابلة المنشورة في صحيفة فتكون دارت في غياب شهود العيان.
في خمسة فقط، من 40 تسجيلاً فحصتها، طرح المذيعون السؤال عن القدرة النقدية، أو ذكروا تعبير «سياسة معاقبة الفقراء»، بشأن منح البلدية الذين يعملون لأكثر من 18 ساعة في المنطقة من منخفضي الدخول (دون 30 ألف جنيه سنوياً أو حوالي 21 ألفاً بعد الضرائب) إعفاء لعامين فقط، فهدف البلدية هو منع السيارات الخاصة من دخول المدينة بحلول 2031.
حتى في البرامج الخمس التي وعيت لوجود الفقراء والطبقة العاملة (وهم لا يخطرون ببال نشطاء البيئة، فكلهم من أبناء الطبقات ميسورة الحال) لم يطرحوا أسئلة بديهية أو حتى يجروا بحثهم الخاص في الأمر.
مسؤولو البلدية رددوا في المقابلات أن 200 ألف سيارة وشاحنة تدخل المدينة يومياً و60 في المائة منها تعد «ملوثة» للبيئة، بلا ذكر عدد «محدودي الدخل».
ولم يسأل المذيعون كم من المليونين و227 ألفاً (سكان المدينة) «محدودي الدخل»؟
كم منهم. يقود سيارات قديمة «تلوث البيئة»؟ تجنباً لاستخدام كلمة «فقراء» أجاب مسؤولو البلدية «إنهم» يستطيعون تحويل سياراتهم إلى خردة مقابل 2000 جنيه تمنحها البلدية مساهمة في ثمن سيارة جديدة، شرط أن تكون كهربائية؛ مذيعة واحدة فقط، ضمن الأربعين مقابلة، سألت: «متوسط ثمن السيارة الكهربية حوالي 30 ألف جنيه، فمن أين يأتي الفقير بـ28 ألف جنيه؟».
وعندما تهرب مسؤول البلدية من الإجابة بأن هناك مهلة عامين لم تكرر سؤالها.
لم يقارن أي برنامج إذاعي تفصيلاً التكلفة المادية للسيارة الكهربائية، حيث لم يكلف الصحافيون أنفسهم عناء البحث، في مواقع كنادي السيارات الملكي التي تحدد أنواع السيارات الكهربية وثمنها. والمتوسط على سبيل المثال لا الحصر، سيارة صغيرة لزوجين وطفلهما بلا أي إضافات حوالي 30 ألف جنيه (17 ألف جنيه لسيارة مماثلة بمحرك الاحتراق الداخلي)، أما سيارة الأسرة العادية الصالون بأربعة أبواب بمحرك كهربي يتراوح ثمنها ما بين 44 ألف جنيه - 50 ألف جنيه. (25 - 33 ألفاً المقابل بمحرك بنزين).
وإذا افترضنا اضطرار البعض (كصنايعي يحمل أدواته. مثلاً) إلى شراء ناقلة جديدة بمحرك كهربي، فلا خيار أمامه إلا الاقتراض من البنك أو يستمر في دفع الضريبة، إذا كانت أقل من الفوائد الشهرية على القرض. ولم يسأل المذيعون «هل ستقدم البلدية ضمان قرض للبنك حتى يتمكن الفقير من شراء سيارة كهربية؟».
أما السؤال عن كيفية شحن الفقراء بطارية السيارة في حالة التمكن من شرائها كهربائية، فكان عاماً بلا أرقام حقيقية.
متوسط الرحلة على بطارية واحدة 190 ميلاً تنخفض في الشتاء إلى أقل من 100 ميل عند تشغيل التدفئة، لم يسأل أي مذيع عن نسبة السكان المقيمين بمنزل بحوش يستطيعون ركن السيارة فيه أثناء شحن بطاريتها. لا يوجد الرقم على موقع البلدية المزدحم بشعارات مكافحة التسخين الحراري، وضرورة إنهاء الاعتماد على محرك الاحتراق الداخلي. الرقم تقديري وجدته باجتهادي الخاص عند بعض وكالات العقار بالمدينة، 10 في المائة فقط من الدور، والباقي شقق أو مساكن لا يمكن ركن سيارة قربها.
لم يسال أي مذيع: إذا كان الغرض تنقية الهواء، فكم عدد الأشجار التي تزرعها البلدية مقابل الأشجار التي تقتلعها سنوياً، خصوصاً أن الأخيرة باسقة نمت عبر مئات السنين، أي لا تعوض؛ ويستوجب زرع ما بين 28 إلى 32 شجرة جديدة مقابل واحدة باسقة، كي تمتص في أربعة أعوام قدراً مماثلاً لما تمتصه الشجرة العجوز من ثاني أكسيد الكربون؟
لم يطرح أي برنامج مسألة تكلفة كهربة المرور للبيئة نفسها.
التخلص من طن السيارة الخردة يضيف طنّين عادم الكربون إلى البيئة، بينما يضيف إنتاج طن من الألومنيوم (لتصنيع سيارات خفيفة الوزن) قرابة 22 طناً عادم الكربون. كما لم يسأل الصحافيون عن التلوث الكربوني من نقل المواد الخام، خصوصاً وأن معظمها يصنع في الصين والشرق البعيد.
السيارة «الهوندا ماكلين» الكهربية تصل الرقم الحدي (أي توفير المقابل من عادم التصنيع)، بعد خمس سنوات (50 ألف ميل)، بينما مثيلتها التقليدية لحظة الخروج من المصنع، البطارية «المثيلة» تصل الرقم الحدي بعد 105 آلاف ميل - وتقدر حياة السيارة الحديثة بثماني سنوات، بينما تقطع 10 آلاف ميل سنوياً في المتوسط.
وإذا كان تعريف عملاق شارع الصحافة اللورد نورثكليف للخبر «معلومة تحاول جهة ما إخفاءها، وغير ذلك مجرد إعلانات»، فأيهما أسوأ: الصحافي الكسول عن البحث، الجاهل بالأسئلة، أم الواعي بها (خصوصاً البديهية منها) وتعمده عدم إثارتها لدى الرأي العام لقناعته، أو غسيل دماغه بنفسه، بحالة هيستيرية من عقيدة جديدة (البيئة في هذه الحالة) تجعله يكفر من يرفض تقديم القربان على مذبحها الكهربائي حتى ولو استدان من قوت أولاده لشراء هذا القربان.