زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

ما بعد الأربعين عاماً... مجلس التعاون إلى أين؟

سؤال كبير بلا شك وربما إجابته تقف أمام قراءتين؛ أولاهما قراءة موضوعية عقلانية ترتبط بمنهجية علمية ومعطيات، وبالتالي هي تعكس الواقع مهما كانت وضعيته وحساسيته، والأخرى حالة قد تكون أقرب إلى التمنيات منها إلى التوقعات، وتلعب فيها العاطفة دوراً رئيسياً. الحقيقة، أنه رغم كل العواصف والرياح العاتية والصعاب التي واجهت دول المجلس في مراحل متعددة، لعل آخرها الخلاف مع دولة قطر إلا أنها استطاعت تلك الدول وبمشقة تجاوز تلك المرحلة غير المسبوقة في تاريخ المجلس، بل وأثمرت قمة مصالحة عقدت في العلا السعودية لتضع النقاط على الحروف، وكان وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أشار حينها إلى نقطة جوهرية تم التوقيع عليها من قبل الجميع، حيث «أكدت الدول الأطراف تضامنها في عدم المساس بسيادة أي منها أو تهديد أمنها، أو استهداف اللحمة الوطنية لشعوبها ونسيجها الاجتماعي بأي شكل من الأشكال، ووقوفها التام في مواجهة ما يخل بالأمن الوطني والإقليمي لأي منها»، مؤكداً أن القمة «أعلت المصالح العليا لمنظومة مجلس التعاون الخليجي والأمن القومي العربي». توّج ذلك الإنجاز لاحقاً بلقاءات سعودية – قطرية، وأيضاً أجواء إيجابية تعاقبت بدليل أن هناك لقاءات تجرى اليوم بين لجان إماراتية - قطرية لمعالجة الملفات العالقة وحل ما يجب حله.
بعد مرور الأربعة العقود هذه لا بد من تقديم العرفان والتقدير والشكر للمؤسسين الكبار لهذا الكيان الذي ما زال شامخاً وقائماً رغم كل ما ألمّ به من أحداث ومواقف وأزمات. التجمع الخليجي مقلق للجيران والقوى العالمية؛ فالتكتل يعني النفوذ والتأثير والقدرة وهذا ما لا يرغب فيه الآخرون، وبالتالي يميلون إلى التعامل الثنائي، فضلاً على اختلاق الأزمات والفجوات حتى يضعف التكامل الخليجي، ومع ذلك أصبح لدول الخليج حضور دولي بارز ورقم مهم في مجالات التنمية ومنافس عالمي في مقاعد متقدمة من حيث المؤشرات.
هذا يعني أن هناك الكثير من الجهود والإنجازات والتفاصيل الدقيقة التي قد لا يشعر بها الإنسان الخليجي، وقد لا تمس حياته اليومية، ولكنها منظومة كبيرة متداخلة ومتشابكة تصبّ في تحسين حياته ورفاهيته وترسيخ أمنه من دون أن يعلم تفاصيل ذلك. من تجربتي كعضو سابق في مجلس الشورى السعودي لمدة ثلاث دورات اطلعت عن كثب بحكم طبيعة العمل البرلماني على حجم العمل المتنوع والضخم بين هذه الدول والإنجازات التي تحققت والجهد الذي تقوم به الأمانة العامة والقرارات التي تصدر عن اجتماعات اللجان المتخصصة المتعددة بما فيها العسكرية والأمنية. هناك عمل دؤوب ومحصلة قيمة، ولكنها للأسف لا تصل للمواطن الخليجي، وأتصور أن الخلل إعلامي في المقام الأول وفي حاجة إلى مراجعة من الأمانة وذلك لتصل الرسالة للإنسان الخليجي.
المشهد الحالي في المنطقة استناداً للحراك الدائر يبعث بالتفاؤل رغم الدعايات المغلوطة، إلا أن الزيارات مستمرة، خصوصاً في ظل دبلوماسية سعودية رائدة تمسك بزمام المبادرة بتوجيه الملك سلمان وتفاعل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ولي عهد الكويت كان في الرياض بالأمس وسبقه زعماء خليجيون في لقاءات أخوية لتؤكد الرياض أنها قبلة التجمع الخليجي كونها تؤمن بالحوار واللقاءات المباشرة، وتنزع للتدخل في اللحظات الحاسمة لإنقاذ المنظومة الخليجية مهما اعتراها من اختلافات في وجهات نظر.
ما يقوم به ولي العهد يعكس توجه السعودية الجاد في ملء الفراغ ومواجهة ما يحاك في المنطقة من مشاريع إقليمية وحماية المصالح الخليجية والعربية وهنا تتجلى محورية السعودية ودبلوماسيتها التي لا يهمها الأضواء والإطراء بقدر النتائج ومصلحة الشعوب.
كان معبراً الأمير محمد بن سلمان عندما واجه الزعماء الخليجيين في العلا بقوله «نحن اليوم أحوج ما نكون لتوحيد جهودنا للنهوض بمنطقتنا ومواجهة التحديات التي تحيط بنا»، مشيراً إلى أن سياسة بلاده «تضع في مقدمة أولوياتها مجلس تعاون خليجي موحد وقوي». مقولة الأمير محمد رسالة دعم والتزام وتأكيد بموقف بلاده في ظل توغل غير مسبوق لقوى إقليمية غير عربية.
الظرف الإقليمي ودقة المرحلة يستدعيان إدراكاً ووعياً بما جرى ويجري وبخفايا تاريخ المنطقة ويستوعب حساسية الجغرافيا وتعقيداتها، ولذلك لطالما كان المجلس مدعواً لاستشعار المخاطر المحدقة به؛ فالأمر لم يعد يتعلق بالمواجهة وإنما بالوجود والبقاء جراء المخاطر المحدقة به. الخلاصة علينا أن نلتف حول بعضنا بعضاً كخليجيين ونفكر في مصالحنا أولاً.
إيران لها علاقات متباينة مع دول الخليج، ولكن الحالة الإيرانية تحتاج إلى تعاطٍ مختلف لأن المسألة هنا ليست مرتبطة باستقلالية القرار أو السيادة أو مبادئ القانون الدولي رغم أهمية كل ذلك، بل هي مرتبطة بقضية البقاء والوجود لنا كدول ما يقتضي اتخاذ قرارات صعبة ومكلفة. نحن كدول خليجية في حاجة إلى صوت قوي وموحد لرفض ما تقوم به طهران، والتأكيد على سياسة موحدة تحقق مصالحنا وتحمي أمننا وتؤدب النظام الإيراني.
تعقيدات المشهد الإقليمي تقضي بالضرورة أن تتحرر بعض الدول من الأحمال الوهمية الملقاة على عاتقها ما يعني أن تسريع وتيرة التحول إلى صيغة أكثر فاعلية أمر مطلوب، والاستفادة من المكانة التي تحظى بها دوله في الآونة الأخيرة التي وضعته ضمن أهم التكتلات المؤثرة في الإقليم.
نجاح المجلس ككتلة مرهون بإرادة أعضائه في الخروج بقرارات مصيرية، والانتقال لواقع جديد برؤية شمولية تتجاوز التعاون والتشاور والتنسيق هو ما تحتاج إليه حقيقة هذه الدول وقد طرحها الملك سلمان في رؤية عميقة وشاملة.
هذه الرؤية الموسعة أقرّها المجلس عام 2015 في تفعيل دور المجلس وتمثل لحظة فاصلة في مسار التعاون الخليجي، حيث تضمنت الرؤية محاور عدة، منها بلورة سياسة خارجية موحدة واستكمال مقومات الوحدة الاقتصادية والمنظومتين الدفاعية والأمنية المشتركة، بالإضافة إلى تعزيز المكانة الدولية لمجلس التعاون ودوره في القضايا الإقليمية والدولية. والمثير للاهتمام ما صدر عن قمة الخليج في العلا بالموافقة على التنفيذ الكامل والدقيق لرؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وفق جدول زمني محدد ومتابعة دقيقة.
رؤية الملك سلمان لتفعيل البيت الخليجي هي خريطة طريق لبناء كتلة خليجية موحدة قادرة على مواجهة التحديات ما يضمن لها البقاء ويحمي مكتسباتها ويحقق رفاهية شعوبها.