توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

التجديد القديم وأخوه العصراني

وصلتني من أحد الأصدقاء الأعزاء رسالة طويلة، أرادها رداً على مقال الأسبوع الماضي. وخلاصة الحجج التي ساقها الصديق، هي أنَّ الدعوة لتجديد الدين ليست جديدة. وقد كُتب عنها عشرات الكتب والرسائل. أما الكتابات الجديدة، فلا تخلو من شائبة الانبهار بالفكر والمدنية الغربية، فلا يؤمن الخطر من جانبها.
والحق أنَّ ما قاله الصديق لا يبعد عن الواقع. ويظهر أنَّ أقدم ما وصلنا من كتابات الأسلاف في هذا الموضوع، هو رسالة «التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة» لجلال الدين السيوطي (1445 - 1505م) وقد حققها وطبعها المرحوم عبد الحميد شانوحة، وله عليها تعليقات لا تقل قيمة عن متن الرسالة إن لم تزد.
واقتصرت الرسالة على مراجعة الروايات المختلفة لحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي فحواه أنَّ الله يبعث للأمة على رأس كل قرنٍ من يجدّد لها دينها، والنصوص التي جرت مجراه، ثم الأقوال المختلفة في تعيين من ينطبق عليه وصف «المجدِّد» في كل قرن من القرون السابقة.
واطلعت أيضاً على كتاب طريف في هذا الباب، هو «مفهوم تجديد الدين» لبسطامي محمد سعيد، الذي خصص ما يزيد على ثلثي صفحاته لنقد «المفهوم العصراني للتجديد» أي النقاشات الحديثة في الفكر الديني، الصادرة من خارج المدارس التقليدية، أو التي من داخلها لكنَّها تأخذ منحى نقدياً لمناهجها وثقافتها.
وقد سمى تحت هذا الوصف جملة مفكرين؛ أولهم سيد أحمد خان، المفكر الهندي، ثم محمد إقبال، الفيلسوف والشاعر الباكستاني، ثم الشيخ محمد عبده وعلي عبد الرازق ومحمد أسد وعبد الله العلايلي وآخرون.
أقول إن هذا الكتاب طريف، لأنه اتخذ معياراً وحيداً تقريباً في نقده لما سماه المفهوم العصراني، هذا المعيار هو خروج الفقيه أو المفكر عن القواعد الموروثة في علوم الدين. بعبارة أخرى، فهو يعتبر تجديدهم باطلاً، لأنهم أرادوا الانعتاق من التفسيرات القديمة والأفكار القديمة، أي أنهم سعوا للتجديد الفعلي. هذا الكتاب أقرب إلى مرافعة ضد الحداثة، مما هو حول التجديد.
والمشهور بين الدعاة وعامة الناس، أن جوهر التجديد هو الرجوع لما يسمونه الأصول الصافية، أي القرآن الكريم والسنة النبوية. وهم يرون أن المشكل هو «علم الدين» أي الشروح والتفاسير والاجتهادات، التي أعطيناها مرتبة تماثل الدين. فالتجديد عندهم هو ترك تلك الآراء والعودة للأصل.
لكن هذا يقودنا إلى مشكل آخر: هل سيكون لكل العلماء المعاصرين حق متساوٍ في العودة للنص والاجتهاد فيه، أم أن هذا الحق محصور في أشخاص بعينهم أو مدرسة بعينها؟
إذا فُتح الباب للجميع (وهو الأكثر معقولية) فكل ما ينتجه المفكرون والعلماء سواء في القيمة، من أخذ بهذا الاتجاه ومن أخذ بنقيضه، من اعتمد مناهج البحث القديمة أو أخذ بتلك التي تطورت في أوروبا.
وإذا قلنا إن الباب مقصور على العلماء الراسخين في علم الشريعة، بمعنى أن تفكيرهم الديني بُني وتطور في إطار علم الشريعة الموروث، فسوف يكون العلم الذي يحملونه هو العلم الذي نتوقع منهم أن يتخلوا عنه! فهل هذا ممكن واقعياً؟
أردت القول بأن مفهوم التجديد هذا غير مفيد ولا يثمر تجديداً حقيقياً. التجديد بمعنى المزامنة والمعاصرة مشروط بإجراء مطالعة نقدية في الأصول نفسها، لاستكشاف الفاصل بين الأفق التاريخي للنص ورسالته الداخلية. ولعلنا نعود لهذه الفكرة في قادم الأيام.